شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

“الزيارة”.. من أوراق زوجة معتقل ـ عزة مختار

“الزيارة”.. من أوراق زوجة معتقل ـ عزة مختار
  حين يتلهف قلبك على رؤية حبيبك فى ذات الوقت الذى تخشى فيه اللقاء خوفا من لحظة فراقه الجديدة، وكأنه جرح نازف...
 
حين يتلهف قلبك على رؤية حبيبك فى ذات الوقت الذى تخشى فيه اللقاء خوفا من لحظة فراقه الجديدة، وكأنه جرح نازف متجدد.
 
إنه يوم العرض الجديد بعد انقضاء مدته الثانية خمسة وأربعين يوما، وتلك هى فرصتنا فى رؤيته.
 
تتراءى الصور أمامى بالعشرات كأنها شريط يتجدد، لحظة الخطف، ذلك المشهد الذى تكرر كثيرا فى حياتي.
 
كان يوم عرسي..
 
بعد انتهاء الحفل الربانى سرنا فى طريقنا معا، قلبان متصلان بالله، إلى بيتنا الحبيب.
 
على بابه يا لهول ما رأينا؟ كانوا مدججين بسلاح الشيطان معتصمين بحبال المعصية، الشر يتطاير من عيون حمقاء، جذبه أحدهم من يده الطاهرة، نريدك نصف ساعة.
 
سقط قلبى أمام بيتى الوليد؟ قال لى لا تخشى يا حبيبتى فسأعود بإذن الله، وإن لم يحدث ففى طريقى سيرى أكملى الطريق، لا يوقفنك عنه خوف سأكون سجينا وأنت حرة كونى لسانى الذاكر، وقلبى الشاكر إن توقفت دقات قلبي، الطريق أمامك لا تحيدى عنه فنحن شئنا أم أبينا مصابيح للناس إن انطفأ المصباح من حولهم فماذا يفعلون. وأخذوه.
 
سار معهم , رابط الجأش ثابت الخطى غاب عن ناظرى استحييت أن أبكى وأنا أراه بهذه الصلابة، دوى كلماته فى أذنى "فى طريقى سيرى".
 
كنت أتوقع حضوره فى أى لحظة، كل يوم أهيئ نفسى وبيتى لاستقباله كما تتهيأ العروس.
 
مر يوم وشهر وسنة، سنة كاملة وأنا على انتظاره ولم تنقض تلك النصف ساعة التى أرادوه فيها.
 
مر وما زلت أنا العروس المحبة، بل المتيمة بحبه.
 
عاد.. جاء يوم لقاء جديد يوم عرس جديد، جاء صلبا قويا، بل خلته أصلب عودا مما كان، وجهه كان شاحبا، لكن بريق عينيه لم ينطفئ بل ازداد توقدا، بشرته مالت للاسمرار لكن نور وجهه ازداد بريقا، أصبح أكثر نحافة لكن أصلب عودا.
 
كنت بعودته يومئذ أسعد منى فى يوم عرسي، مر شهر كنا فيه أسعد ما يكون البشر، عاد فيه كل مريض، ووصل فيه كل ذات رحم، إلى أن جاء ذلك اليوم المشئوم، أيقظنى لصلاة الليل ثم استعد للصلاة بالمسجد رجوته أن يبقى اليوم نصليه معا، رفض وأبى إلا أن يصلى بالمسجد قائلا إذا تخلف الإمام فما يفعل المؤتمون، خرج للصلاة ولم يعد.
 
أخذوه هذه المرة من المسجد، التهمة "التحريض على قلب نظام الحكم"، ثلاثة أعوام مرت كلها دون أن أراه ولو لمرة واحدة.
 
بحثت فى كل مكان حتى علمت أخيرا أنه فى أحد معتقلات صعيد بلادنا المعتقلة، حملت معى كل أشواقى ولهفتى وسافرت إليه، قطعت الطريق الطويل بالقطار مرت الساعات كسنوات ثقال.
 
دقات قلبى أعلنت قرب اللقاء، دخلت من البوابة الحديدية الكبيرة، ثم سرت كثيرا ودخلت من باب دهليز لممر ثم أبواب أخرى.. آه يا زوجى الحبيب، كل هذه الأبواب تحبس خلفها؟ ولم؟ أيخشونك إلى هذا الحد؟ أنت يا من يحبك البعيد والقريب؟ ويوقرك الكبير قبل الصغير؟ أنت يا بلسم الحياة الجريحة؟ أنت يا من تحمل كتاب الله بين جوانحك؟ يخافون منك؟ ومم يخافون؟
 
التقينا.. كادت صرخة مكبوتة تخرج منى لولا أن تداركت الأمر.
 
إنه هو وليس هو، ليس إلا هيكل إنسان افترسته ذئاب لا تعرف الرحمة، علامات التعذيب على جسده الواهن.
 
 ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف حالك يا حبيبتى؟
 
قالها بكل حنان الدنيا، قالها وكأننى الحبيسة لا هو، صرخت، ما عدت أحتمل، لم ما نحن فيه؟ ما جرمنا؟ لم يحاكم المظلوم ويطلق صراح الظالم؟
 
ـ اصبرى فما هى إلا بشائر بأننا على طريق الحق.
 
ـ إنهم يعذبونك، ألا يكفيهم سجنك؟
 
ـ والله ما زادنى كل هذا إلا صلابة وقوة ثم إنى رجل فهل أكون أضعف من امرأة فرعون؟
 
ـ لا أستطيع أن أحيا هكذا، مللت الحياة والأحياء، الناس من حولى يعيشون، الزوج مع زوجته، الأب مع أبنائه، كل منهم يبيت فى فراشه آمنا، وأنت؟ لا يعلمون عنك شيئا، أمن أجلهم أنت هنا؟
 
ـ لا يا حبيبتى أنا هنا من أجل دعوة ربي، كلمة الحق التى ناديت بإعلائها، وكما قلت لك من قبل هذا طريقى وأنا سائر فيه، سائر ولن أظلمك فإن أردت السير معى فاصبرى وكونى دافعا لي، وإن عجزت عن مواصلة المسير فلك حريتك ولن أكون حائلا بينك وبين ما تبغين.
 
صرخت فى وجهه أن يكف ماذا يقول؟ هل يتصور أننى يمكن أن أختار فراقه؟ ألا يدرى ما هو بالنسبة لي؟
 
أمسك بيدى قائلا: حبيبتى أريدك معى كما آمنت بلقيس مع سليمان لله رب العالمين، أريدك لأنه الطريق الوحيد الذى يجب أن نسيره "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها وامرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
 
جاءنا المنادى معلنا انتهاء الزيارة وقبل أن أعده بتكرارها، طلب منى أن أفكر فى عرضه وأتريث فى الرد.
 
 عدت فى طريقى وأنا لا أشعر أننى بنت الخامسة والعشرين، وإنما كنت أحمل فوق كاهلى آلاف السنين، شعورا يسرى فى دمى فتتثاقل قدمى عن المسير.
 
حملنى القطار إلى حيث العش البارد، تتعارك أفكارى جميعا، صوت قلبى يعلو، لن نحتمل ما نحن فيه، لن نحتمل آلام الفراق، لن نحتمل الوحدة البشعة.
 
صوت كلماته هادئ رزين. إن شئت الاستمرار معى فليكن لله وليس لى ولتحتسبي، وإن لم تستطيعى فلك ذلك ولا حرج.. كيف أتته الجرأة فى أن يفكر فى ذلك أو أن يخطر له مجرد خاطر؟ أيحسب أننى يمكن أن أقبل غيره؟
 
إنه يزن عندى رجال الدنيا بأكملها, إن كل ما أريده أن أحيا معه حياة هادئة ككل الناس بعيدا عن المتاعب وطرقات زوار الليل؟ أعلم أننا على الحق , ولكن ماذا يفعل مشعل واحد بين كل هذا الظلام الدامس؟
 
مرت أيام قلائل عصيبة ورغم شظف العيش وقلة المال ومشقة السفر إلا أن شوقى لسماع كلماته حملنى إليه، الإحباط يكاد يقضى على يقينى والوحدة تقتل الأمل بداخلي.
 
هناك فوجئ بسرعة عودتى للزيارة قلت له نحن وحدنا. من أضأنا لهم الطريق لا يبصرون أردنا لهم النجاة فقالوا إرهابى ومتطرف وعميل وأحيانا شيوعي. لم يتركوا تهمة إلا وألصقوها بك.
 
ـ رسول الله كان وحده إلا من الله وهو كافيه وكذلك كل رسل الله.
 
ـ سنموت قبل أن يعرفوا الحقيقة.
 
ـ رسول الله بشر بالفتوحات ومات قبل أن يراها.
 
ـ الظلام أشد، والطريق أكثر وعورة، والوحوش أكثر ضراوة.
 
ـ الظلام هو الظلام، ظلام الجهل والرذيلة، والطريق هو الطريق لم تتغير معالمه ولم تتبدل، إنها سنة الله فى الأرض، السيف أصبح مدفعا والفرس صار دبابة ورمال الصحراء صارت سجونا ولها جدران، الظلم هو الظلم وإن تعددت أشكاله إنما الحق واحد وله سبيل واحد، فإن حدنا خسرنا الدنيا والآخرة ونكون حينئذ جزءا من القطيع المساق، وساعتها لن يشفع لنا عند الله أن الناس كلهم فى ضلال.
 
تعجبت من يأتى بهذه القوة وهو حبيس الجدران العالية والأبواب الحديدية؟ من أين يأتى بهذا اليقين وهو ضعيف البنية قليل الحيلة. يا ويحي، أنا الحرة الطليقة عجزت أن أكون فى مثل يقينه. قلت له ألا تخشى أن يقتلوك؟ قال فى صلابة أكثر: بل مرحبا بالموت فى سبيل الله.
 
انفتحت مغاليق قلبى لكلماته. تساقطت الدموع من عينى آخذة معها آثار الغشاوة الشيطانية، بريق عينيه اخترق صدرى وعقلى رأيت النور بعدما كنت أسمع عنه.
 
آه يا قلبي، الطريق أنت فى بدايته فلتواصل المسير. وها هو يوم لقاء جديد أطمئن فيه على الحبيب.. وعد لتكمل المسير. 
 


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023