لا يغني التدوين في إدراك المعرفة الناجمة عن تجربة ذات طبيعة خاصة، فإن ثمة معرفة تنبت خارج المدونات وغرف الدرس الأكاديمي والنشاط الثقافي الكلاسيكي، وهذه المعرفة يَقْبَلُ بعضها التدوين، وبعضها الآخر يبدو عصيًا على التدوين، وما يقبل منها التدوين فإنه يبقى قاصرًا عن حقيقته في لحظة تولده في ظروفه الخاصة، وبهذا فإن نقله بصورة تامة لا يبدو ممكنًا، كما أن هذا النمط من المعرفة يتفاوت حتى في منشئه الأصلي لتعلقه بالتجربة الخاصة التي تصدر عنها أحاسيس وأفكار متفاوتة.
مثلا؛ المعرفة التي ينتجها أو يدركها مقاتل يطارده الاحتلال، يمكن تدوينها، وهذا ليس متاحًا بصورة دائمة، لأمر يتعلق بإرادة المقاتل وقدرته، أو بالظروف غير المواتية، لكن ما يمكن تدوينه منها فإنه أبدًا قاصر عن نقل المعرفة الوجدانية المصاحبة للمطارد، وعاجز إزاء الإشراقات الذهنية التي ترد على قلب المطارد في لحظات شديدة الخصوصية، كاقتراب العدو منه، أو اشتباكه معه، وإحساسه باقتراب الاعتقال أو اقتراب الشهادة، والأفكار الوجودية التي تتسارع في عقله في مثل هذه اللحظات، والصراع الطبيعي بين ضعفه الإنساني وقوة القضية في داخله.. وبعيدًا عن هذه المعرفة التي تبدو أقرب لتجربة صوفية خاصة، فإن ثمة معارف موضوعية يكتشفها المطارد أو ينتجها، مثل فن الاختفاء والتمويه وطرق الاتصال، وهي معارف يمكن نقلها أو التعبير عنها، ولكن المقدمات التي أفضت إلى هذا الاكتشاف تبقى تجربة معرفية خاصة.
يمكن قول الأمر نفسه، مع معرفة المقاتل في ميادين الجهاد المفتوحة، أو معرفته في ظروف البناء الجهادي والإعداد، أو معرفة المناضل في المظاهرات وهو يتوقع القتل أو الاعتقال والتعذيب في أي لحظة، أو معرفة المناضل الذي خاض سنوات طويلة في مكافحة الطغيان والاستبداد وهو يجرب طوال هذه السنوات الحلول والأفكار ويجري المراجعات ويقلب البدائل، أو معرفة المعتقل.. الخ، وفي كل هذه المجالات المعرفية الخاصة معارف شخصية ذاتية تتفاوت بحسب تجربة كل فرد وظروفه وأوضاعه الجوانية والبرانية، فلا يستوي بهذا معرفة اثنين جربا الاعتقال، وسيخرج كل منهما بحمولة معرفية خاصة به لا تتوفر للآخر، وإن كانا أقدر على فهم معرفة كل منهما أكثر من ذلك الذي لم يخض التجربة.
يبدو من بعض المثقفين ازدراء لكل أنماط المعرفة التي تُنتج من خارج مجالهم، أو على الأقل لا يعترف هذا البعض من هؤلاء المثقفين بإمكان إنتاج المعرفة من خارج النمط التدويني، أو بغير الأدوات الأكاديمية، أو لا يدركون في موقفهم من التجارب العملية أنها مجالات خصبة لإنتاج المعرفة، بعضها منقول وبعضها يستعصي على النقل، الأمر الذي يظهر لنا مفارقات طريفة، كاعتبار كتاب يتحدث عن تجربة عملية منتجًا معرفيًا، وبالتالي اعتبار مؤلفه صاحب منتج معرفي، حتى لو لم يكن هو نفسه صاحب التجربة، وعدم اعتبار التجربة نفسها منتجًا معرفيًا، وبالتالي لا يعتبر من خاض التجربة مالكًا أو منتجًا لمعرفة لأنه جربها عمليًا ولم يقرأها في كتاب!
من ناحية يتخذ المثقف هذا الموقف لأنه لا يشارك في إنتاج هذه المعرفة، ولا يجد نفسه داخل مجالاتها ولا في صورة أنماطها، ويشعر بضعف موقفه حين يريد تقييمها وتحليلها، وهو ما قد يفسر، بنسبة ما، عدوانية بعض المثقفين تجاه التجارب العملية، لتعويض الشعور بنقص الامتلاك الفعلي لهذه التجربة التي يجري تقييمها ونقدها، ومن ناحية أخرى؛ فإنه ومع هيمنة المؤسسة الأكاديمية ولغتها السائدة حتى لدى المثقفين الذين راكموا مخزونهم الثقافي من خارج المؤسسة الأكاديمية؛ جرى حصر المعرفة في أنماط محددة وكتابات ذات ديباجات لغوية خاصة، ما جعل أنماطًا كثيرة من المعرفة خارج الاعتراف الثقافي.
يعبر عن هذه الحالة، مثلاً؛ مثقف يقدم عرضًا لمذكرات أسير فيترك التجربة ليهجو اللغة غير الأكاديمية التي عبّر بها الأسير عن تجربته، وبهذا لا ينال هذا المنتج المعرفي، ومع أنه مدوَّن، شهادة الجدارة بالانضمام إلى أي من حقول المعرفة!
أو مثقف يتخذ موقفًا عدوانيًا من فكرة التنظيم، الذي تقتضيه طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني، ويقترح بدلاً منه نماذج لا يمكنها أن تجيب على التحدي الأمني والعسكري الذي يفرضه الشكل الاستعماري للكيان الصهيوني، وقد تمثلت مثل هذه المقترحات بـ "الحراكات الشبابية" التي أريد منها أن تكون بديلاً نهائيًا عن التنظيمات، والطريف أن بعض هذه الحراكات، أو البدائل المقترحة عن العمل التنظيمي والمقاوم، ممولة من جهات استعمارية تمول وترعى دولة العدو الصهيوني أيضًا، والواضح حتى الآن أن هذه الحراكات ما استطاعت أن تملأ أي مساحة من الفراغ الناجم عن ضعف التنظيمات في الضفة الغربية، ولا أن تقدم أي مقولة أو ممارسة جادة لمواجهة الاحتلال ومعالجة مظاهر التردي في المشهد الفلسطيني. وعربيًا؛ ورغم كل النفخ في الحراكات الشبابية غير المنظمة، فإن النموذج الوحيد الذي بقي قادرًا على مواجهة الثورة المضادة وفاشية العسكر هو (التنظيم) ممثلاً في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين وبعض التنظيمات الحليفة لها، بينما انهارت تلك الحراكات ما بين العجز أو ممالأة النظام العسكري!
ثمة تعبير آخر عن هذه الحالة يبدو غريبًا ومقابلاً في ظاهره للتعبير السابق ولكنه ينطلق من نفس الجوهر؛ وهي حالة المثقف الذي يتطرف في التأكيد على المقاومة وضرورة العمل التنظيمي السري، إلى الدرجة التي يتهم فيها التنظيمات المقاومة بترك المقاومة، بينما لا يمارس هو أي شكل من أشكال المقاومة، ولا يدفع حتى ثمن مزاودته.
ومثله موجود عربيًا، فقد انتكس بعض أصحاب الصوت العالي في ادعاء الثورة من المثقفين إلى درجة كاتب بلاط لدى الجنرال، في الوقت الذي لا يزال فيه بعض من مثقفي الشباب يقدم مزاودة ثورية عالية دون أن تتغبر أقدامهم وإن في مظاهرة واحدة!
وإذا كانت المعرفة المدوّنة والمعترف بها في الأوساط الثقافية، تقدم إضافة واضحة لقدرتها على الانتقال، فإن التجربة العملية تقدم إضافة للتجربة نفسها، والتي بدورها تقدم إضافة للمجتمع، وهذا بطبيعة الحال لا يغني عن التدوين لتعميم هذه المعرفة، ولتوسيع مساحة الإسهام فيها بالنقد والاقتراح والتحليل، وهي بهذا تقدم أيضًا إضافة ثقافية وأكاديمية، وبهذا يتضح أن المقصود هنا، ليس خلق ثنائيات جديدة أحد أطرافها المثقف، وإنما هذه محاولة رصدت مظاهر دالة على مواقف ثقافية ذات نزعة عدوانية تجاه المعرفة العملية، كما اتضح في الأمثلة السابقة، وهدفنا منها كسر الثنائية، وتقريب التجربة العملية من الإسهام النظري في سبيل مقاربات نظرية أفضل وأكثر تواضعًا.