مضت سنة الله تعالى في خلقه, وقانونه في عباده أن يظل الصراع بين الحق والباطل دائرا, ما دارت على الأرض حياة وأحياء, دائما مادام في الدنيا دعاة وطغاة, وهداة وبغاة, وتلك سنة لا تتوقف وناموس لا ينتهي, مادام على الأرض حق وباطل, وصواب وخطأ ونور وظلام, وكفر وإيمان, وطلاب دنيا وراغبو آخرة, وأصحاب رسالة وأتباع هوى, يحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله, ويصفون أطهر الدعاة بأفحش الألفاظ, مرة بالخوارج, وأخرى بدعاة الفتنة, وثالثة بأوصاف دنية, ونعوت رزية, ينكرها العقل, ويردها الواقع, وينفيها البرهان, مما لا يليق بهم ولا يليق بالقائلين وعلمهم ومعرفتهم, ولكن متى كان العلم دليلا على الورع, ومتى كان التحصيل أمارة على الدين.
لو كان للعلم من دون التقى شرف لكان أشرف خلق الله إبليس
لقد عرفنا علماء يضرب المثل بحفظهم وتحصيلهم, بل تتلمذنا على بعضهم, نشهد أنهم كتب تمشي على الأرض, وأوعية من أوعية العلم, لكنهم رسبوا في الاختبار, وطاشوا أمام الإعصار, وكانوا بعلمهم عونا للباطل على الحق, وسندا للطغاة على الدعاة, وظهيرا للقتلة والسفاحين على الصائمين القائمين, فهان في نظر الرائي ما كان يكبره منهم, وتيقن قول وهيب بن الورد (153هـ): رب عالم يقول له الناس عالم وهو معدود عند الله من الجاهلين.
وصدق المصطفى إذ يقول: (إن من العلم جهلا)
لكن يهدأ من نفس المؤمن الحائر المتعجب, ويهدهد من غلوائه, ويخفف من ألم نفسه أن يعلم أن الصراع الدائر هذا حلقة من تلك الحلقات التي لا تنتهي, ومرحلة من مراحله التي لا تتوقف, وقبلا قال جعفر الصادق: رضي الله عنه وأرضاه: (من طلب ما لم يخلق تعب ولم يرزق, قالوا ما معنى ما تقول؟ قال: من طلب الراحة في الدنيا), وقديما سئل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (يا إمام متى يجد المؤمن طعم الراحة؟ قال عند أول قدم يضعها في الجنة), فمن ظن أننا نعيش فترة تنتهي بعدها الآلام في الدنيا فهو عن سنن الله في كونه غافل, هي فقط تهدأ وتثور, وتسكن وتفور, ليميز الله الخبيث من الطيب, (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ), الرعد: (17), وصدق الله تعالى إذ يقول:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ), البلد: (4).
ألم يُتهم سيد المرسلين وإمام المتقين والإنسان الكامل (محمدٌ) عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم, وقال الله له: (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم), فصلت: 43.
ألم يقل له: ساحر وشاعر ومجنون, ويفرق بين المرء وزوجه, والأخ وأخيه والابن وأبيه, ألم يقولوا:(كذاب حنيفة أحب إلينا من صادق مضر).
وتذكر لنا كتب السنن والتاريخ أن قريشا كانت تعلم صدق الدعوة والداعية و لكنه الكبر والهوى, والحرص على الداني من المنافع, والدني من الأغراض,ذكر البيهقي (أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا, ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة, ثم انصرفوا فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقالوا لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها فقال الأخنس وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد فقال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الكرب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه فقام عنه الأخنس بن شريق)
ومن تلك الصراعات التي تدور ما نال كل من سار على درب المرسلين من العلماء الراسخين, والدعاة الصادقين,(فكم من إمام ضرب بل قتل, وإمام سجن, وإمام نفي و وإمام عزل وأهين, بل فيهم من جمعت له هذه كلها, أو جلها, بما لبس في حقهم الملبسون, وأرجف به المرجفون, وهم منها براء, والمرجفون في قرارة أنفسهم عليها شهداء).
وإذا قلبنا صفحات التاريخ نستلهم منها العبرة والعظة في تلك الزاوية من زوايا الابتلاء وجدنا ابن حنبل يعيش المحنة كاملة حتى جلد بالسياط, وضرب بالجريد, ورمي بأبشع الألفاظ, لكن من يذكر اسم جلاده, وأين هم أعداؤه في سجل التاريخ وفي أي صفحة من صفحاته.
وسنجد ابن العربي المالكي 543 هـ الذي يقول في مقدمة (عارضة الحوذي): بليت بحسدة لا يفتنون, ومبتدعة لا يفهمون, قد قعدوا مني مزجر الكلب يبصبصون, والله أعلم بما يتربصون: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ), التوبة: (52).
والإمام الشاطبي المصلح المجدد صاحب الموافقات والاعتصام وغيرهما يقول في مقدمة كتاب الاعتصام مبينا أن العلماء والدعاة لا يسلمون من أذى الطغاة وأعوان الطغاة وصبيان الطغاة : (وربما ألمُّوا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب, أو خرَّجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة, شهادة ستكتب عليهم ويسألون عنها يوم القيامة), فاتهم بالرفض واتهم بالتنطع في الدين, لكن بقي الشاطبي وذهب حاسدوه, وخلد ذكره وانمحى من ذاكرة التاريخ متهموه.
وابن تيمية بطل الإصلاح الديني ماذا قال عنه مخالفوه, وبم وصفوه وكيف نعتوه, فأين ابن تيمية وأين شانئوه, لقد سجن في سجن القلعة وحرم القلم والقرطاس, ومنع من الزيارة واللقيا حتى يفصلوا بينه وبين طلابه ومريديه, لكن أين هم وأين ابن تيمية, وكيف كان حاله وحالهم, وهو يقول: (ما يفعل أعدائي بي عن حبسوني فحبسي خلوة, وإن نفوني فنفيي سياحة وإن قتلوني فقتلي شهادة في سبيل الله, أنا في صدري كتاب الله وسنة نبيه).
إن ما سمعناه ونسمعه في هذه المحنة التي يمر بها الدعاة في عصرنا لهي دليل على صدق المنهج, وسلامة الطريق, وعدالة القضية, وعند الصباح يحمد القوم السُّرى
ولينصرن الله ناصر دينه وليُغلبن مغالبُ الغلاب
وأقول لإخواني الدعاة المبتَلَيْن, خلف القيود والسدود, والمطاردين خلف الحدود: استعينوا بالله واصبروا, فتلك ضريبة الدعوات, وثمنها الرابح,وتجارتها التي لا تبور, والكل سائر إلى الله الظالم والمظلوم, والقوي والضعيف, والقوي لا يبقى قويا أبد الدهر, ولا الضعيف يظل ضعيفا أبد الزمان, والمأسور من أسره هواه, والمحبوس من حبس قلبه عن الله, كما يقول ابن القيم؛ فلا تبتئسوا, ولا تيأسوا, ولا يثنينكم إرجاف المرجفين, ولا تثبيط المخذلين, والشجاعة صبر ساعة, وتمثلوا قول الشافعي في تصبره وتجلده:
يا نفس ما هي إلا صبر أيام كأن مدتها أضغاث أحلام
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرة وخل عنها فإن العيش قدام
——————————–
د.رمضان خميس الغريب
أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك في جامعة الأزهر
وجامعة حائل المملكة العربية السعودية
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين