لا أقصد وسيلة المواصلات الحكومية المعروفة الأكثر سرعةً في مصر!
بل أقصد شيئاً آخر، مشهد سينمائي من فيلم شهير "إحنا بتوع الأتوبيس" حينما دخل عادل إمام وعبد المنعم مدبولي إلى السجن وأُغلقت عليهم الزنزانة، سألهم بعض المساجين " إنتوا إخوان ولا شيوعيين؟"
فكان رد الإثنين معاً " إحنا بتوع الأتوبيس! "
" أتوبيس" هي الحالة التي وصف بها عادل إمام وعبد المنعم مدبولي الكثير من المُعتقلين في العهد الناصري، أولئك المواطنين الذين ليس لهم علاقة بأي شيء ولا لهم أية اهتمامات سياسية، ثم تم الزج بهم في السجون دون أن يدرون لماذا أتوا وما هي تهمتهم ؟!
حالة المعتقل " الأتوبيس " هذه هي حالة مُنتشرة هنا في سجون ومُعتقلات نظام 30 يونيو.
أستطيع أن أقول إن النسب كالآتي: 30% إخوان وأنصارهم، 20 % جنائيون مُتهمين بقضايا سياسية مع الإخوان، و50 % " أتوبيس " وبعض مؤيدي السيسي طبعاً.
من المهم جداً رصد ظاهرة مُعتقَل " الأتوبيس " هذه إنسانياً وسياسياً فظني أنها ستؤثر كثيراً في المستقبل القريب.
هنا في السجن حالة المُعتقَل " الأتوبيس " حالة غريبة لا تخلو من غرابة وطرافة … ولكنها بالطبع غرابة وطرافة الظلم!
وبالطبع لا يعنى هذا أن الباقيين مدانون ويستحقون الاعتقال ولكن بالطبع الباقون على الأقل مُدرِكون للوضع جيداً.
فعلى النحو الإنساني تستطيع أن تكتب عن كلٍ منهم مجلدات
لكن إليك أمثلة في سطور مُختصرة ربما تبخسهم حقهم!
" تامر"
مثال صارخ لنموذج المُعتَقَل " الأتوبيس " …. شاب ثلاثيني، أسمر البشرة، ملامحه مُريحة، يبدو بسيطاً من كلامه ويعمل سائقاً بشهادة محو الأمية …. في إحدى الليالِي كان عائداً لبيته وكانت هناك مسيرة تمر من أمام بيته فانتظر " تامر " حتى تمر من أمام البيت ولكن فجأة هجمت قوات الأمن على المسيرة، قُبِضَ عليه …. فأصبح معتقلاً!
"تامر" مُتهم الآن بالانضمام إلى جماعة محظورة تهدف لقلب نظام الحكم، ومحاولة حرق مؤسسات حكومية وحيازة أسلحة ومُفرقعات!
في إحدى جلساتنا سألت " تامر" هل شاركت في الثورة؟ قال " سمعت " عنها ولا أدري ماذا حدث فيها!
" تامر " لا يدري ماذا حدث في 25 يناير ولا في 30 يونيو، لا يُدرِك ما الفرق بين مُبارك ومرسي والسيسي
" تامر " لا يعرف أين يقع ميدان التحرير واستجابة لفضوله قال لبعض أصدقائه أنه يُريد الذهاب إلى ميدان التحرير هذا …. ولكنّه انشغل!
يسرح قليلاً … ثم يقول لي لعلّ ذنوبي هي التي أتت بي إلى هنا!
ولكنّه يتراجع ويقول ببراءته المعهودة " هي سيجارة الحشيش اللي شربتها في فرح ابن عمى!"
ثم يُكمِل " وهي دية كبيرة أوي كده ؟! " …. ينظر إلى السماء قائلاً " والله يا رب ما هعملها تانى"،
المسافة بين المظاهرة التي انتظرها " تامر " وبين منزله كانت مائة متر …. يقول تامر " أغلى مائة متر في حياتي! "
"تامر" مُعتقَل منذ ستة أشهر يُعرض على النيابة، يتلو عليه وكيل النيابة الاتهامات …. يصمت "تامر" لا يفهم معظم الكلام، ثم يردّ بإخراج شهادة محو الأمية لإثبات أنه لم يفعل شيئاً …. ويصمت!
لا أدري كيف سيكون "تامر" بعد خروجه … ولكن ما أثق به أن " تامر" الآن أكثر فهماً للواقع، وأكثر كُرهاً للنظام.
" أبو حامد"
نموذج آخر … أثّر في أنا شخصياً كثيراً. أبو حامد شاب مصري حتى النخاع، ضخم الجثة، ذو ملامح غليظة ولكن يحمل قلباً طيباً رقيقاً، أكبر إخوته وعائل الأسرة، عنده محل " كباب وكُفتة " يعول به أكثر من ثلاثة أُسر.
عندما أُعتقِل ظل يوماً كاملاً مدهوشاً من كمية المُدرعات والقوات التي أتت لاعتقاله!
حكى لي أنه ظل يصرخ فيهم " أنا عملت إيه؟ " طب " في إيه؟ " ولا يُجيب أحد على أسئلته بغير الضرب والإهانات.
أكثر ما كان يُؤلِمني في حديث " أبو حامد " هو إلحاحه عليّ أن أشرح له معنى كلمة " سجين سياسي " التي يتداولها مُعظم المُعتقَلين هنا …. وأيضاً إلحاحه عليّ ليفهم معنى كلمة " إخوان " يقول إنه سمعها كثيراً في الإعلام وهو مُتَهَم بها كاتهام أول أنه من الإخوان! والآن يريد أن يفهم معناها وبالتالي يفهم تُهمته.
حقيقة حاولت كثيراً الشرح له ولكنّه للأسف لا يستطيع الاستيعاب لبساطته، فيزداد ألمي فأحاول أن أقول له أنها بعض الذنوب التي يُكفّرها الله عنا هنا! …. فيُجيب " ولكني لم أفعل ما يُبغِض ربي بالخارج " …. لا أجد كلاماً أرد به فأربت على كَتفه … وابتسم!
لا أدري أيضاً ما سيكون عليه " أبو حامد" بالخارج لكن ما أتيقن منه أن " أبو حامد" ينمو بداخله وحش الانتقام يوماً بعد يوم.
" عم سيد"
نموذج ثالث… شهير هنا هذا الرجل، يعمل بائعاً للبطاطا!
نعم لا تتعجب " عم سيد " يمتلك عربة بطاطا … كان سائراً وسط المُتظاهرين لعلّ أحدهم يشتري منه " كوز " بطاطا لكن ولسوء حظه وقع في يد قوات أمن لا تدري الفرق بين المُتظاهر و " كوز " البطاطا!
أُعتقِلَ " عم سيد " وكانت تهمته أن المُتظاهرين كانوا يُشعِلون " المولوتوف " من فُرن عربة البطاطا….
" عم سيد " يختلف عن " تامر " و " أبو حامد " فهو لا يسأل عن شيء!
فقط " عم سيد " يقول لأولاده عندما يأتون لزيارته أنه " مسجون من أجل مصر " لا أدري أيضا ما سيكون عليه حاله عندما يخرج … لكني أثق أن " عم سيد " بات الآن أكثر إصراراً على السير في المسيرات وبدون عربة البطاطا.
***
لا يكفي فقط رصد ظاهرة المُعتقَل " الأتوبيس " من الناحية الإنسانية … بل يجب رصدها أيضا من الناحية السياسية فدلالاتها السياسية عميقة جداً.
فإذا عرفت عزيزي القارئ أن الكثير هنا ملأته الرغبة في الانتقام …. والكثير هنا ملأته الرغبة في الانطواء …. والكثير هنا ملأته الرغبة في ترك الوطن …. والكثير أيضاً يُحَمّل مسئولية ما حدث له للإخوان….
ولكن الكل هنا يتفق أنه تغيّر …. أصبح أكثر وَعياً وفهماً.
لك أن تتخيل أن هذا النظام الغبي حَوّل الألاف من المصريين الذين لا همّ لهم إلا " أكل العيش " إلى نشطاء سياسيين بمعنى الكلمة … فالكل هنا يقرأ الجرائد … الكل هنا من " الأتوبيس " و " الجنائي " ينتظر أخبار الشارع بلهفة غريبة.
الكل هنا يُحلّل كلّ حدث سياسي صغيراً كان أو كبيراً، الكل هنا مُتفِق أن عدوّه بالخارج
فهذا النظام يصنع أعداءه هنا…
نظام 30 يونيو عزيزي القارئ يصنع هنا ما لا يستطيع أن يصنعه أي تيّار أو جماعة سياسية مهما كانت حجمها ومهما كان نشاطها … هنا أكبر مُنتدى سياسي وتربوي!
عزيزي القارئ هذا النظام الغبي يُقدّم أكبر خدمة للمُتظاهرين بالشوارع، لأنّه يصنع أكبر ظهير سياسي لهم هنا، وأقوى حزب معارضة للنظام!
كنت دائماً أردد أن الغباء جُند من جنود الله….
ولا زالت أرددها وصدق ربنا إذ قال: " وما يعلم جنود ربك إلا هو".