ثمّة شيء ما يجري في الخفاء، هكذا تشير حالة “الهيستريا” التي انتابت إعلاميين كثيرين، موالين للجنرال عبد الفتاح السيسي. فبعد موجة قصيرة من الانتقادات الخجولة، والتي قال بعضهم إنها كانت مخططة، وبأوامر من الجنرال نفسه، انتفض آخرون للدفاع عن الرجل، مستخدمين كل الأساليب، بدءاً من التهديد والوعيد، وانتهاء بـ”السهوكة” والبكاء واستدرار العطف بشكل مثير للشفقة. ويبدو الأمر وكأننا أمام سيناريو مكرر و”هابط”، تم إعداده على عجل، من أجل مواجهة ما يبدو تراجعاً سريعاً في شعبية الرجل، بعد فشله الذريع في تحقيق أي إنجاز، منذ وصوله إلى السلطة.
تبدو حالة الدفاع الهيستيري عن السيسي متناغمة مع حالة “الإفلاس” السياسي والاقتصادي والأمني الذي تعيشه البلاد. وهي مؤشر قوي على نفاد “حيل” الجنرال في الحفاظ على صورته وشعبيته. وهي استنساخ لحالة الدفاع التي قامت بها الأذرع الإعلامية نفسها، عندما أوشك حسني مبارك على السقوط في فبراير/شباط 2011. فبعضهم خرج، أخيراً، مكرراً المقولة اليائسة نفسها “السيسي أو الفوضى”، ومحذراً من قيام “حرب أهلية”، في حالة خروج الناس للمطالبة بتغيير النظام. في حين يرى آخرون أن الرجل يمثل “تجربة وطنية” فريدة، يجب الاحتفاء بها، وأنه يتعرض لـ”مؤامرة” داخلية وخارجية، هدفها إسقاطه. في حين وصل الانحطاط إلى مداه، حين سبّ بعض “مهاويس” الجنرال الشعب علناً، واتهامه بأنه لا يستحق شخصاً بحجم الجنرال وقدره.
نحن، إذاً، إزاء حالة مستعصية من التماهي بين الديكتاتور وأتباعه، لم يسبقنا إليها سوى الأنظمة النازية والفاشية، أوائل القرن الماضي، ولم يعد يوجد منها الآن سوى كوريا الشمالية التي لا تزال تعيش في الماضي الشمولي. قالها بعضهم صراحة إن مصيره معلّق بمصير الجنرال، وإن دفاعه عنه ليس سوى دفاع عن بقائه ومصالحه التي سوف تتضرر إذا سقط السيسي. بل واعترف أحدهم علناً، ومن دون خجل، بأنه لولا انقلاب الجنرال السيسي على محمد مرسي، لكان مصير إعلاميين كثيرين الحبس أو الهرب خارج البلاد، وذلك على الرغم من أن هؤلاء جميعاً لم يشهدوا حرية في التعبير التي كانت تخرج كثيراً عن حدود المهنية واللياقة والاحترام، مثلما كانت الحال تحت حكم الرئيس المعزول، محمد مرسي.
يخشى الموالون للجنرال من غضبة شعبية، قد تطيحه وتطيحهم. لذا، يحاولون قطع الطريق على كل محاولات توحيد الصفوف، أو الاستفاقة، فهم يعرفون جيداً أنهم مجرمون في حق الشعب، وأنه لو قامت ثورة جديدة، فلن تترك منهم أحداً، بعد أن حرَضوا وأفسدوا ونشروا الكراهية وقسموا المجتمع إلى فسطاطين، أحدهما مع الجنرال والآخر ضده. يعلمون أن رقابهم سوف تعلق فوق أعمدة الإنارة في الشوارع، إذا ما انتفض الشعب. لذا، يريدونه شعباً جاهلاً مغيباً وساكناً. ويدركون جيداً أن الجنرال لا يملك أية مؤهلات سياسية، أو إدارية، يمكنه أن يحكم بها، لكنه “واجهة” جيدة، تتلقى الصدمات عنهم، وتحميهم من خلال علاقات القوة والنفوذ.
حدثني صحافي كان معداً لأحد البرامج التلفزيونية الداعمة للجنرال عن حالة النفاق والازدواجية التي يتعامل بها هؤلاء مع الرجل. يقول، والعهدة عليه، إن مقدم البرنامج الذي كان يعمل معه، وهو أستاذ جامعي شاب أصابه “شيطان” المال والشهرة، كان دائماً يسخر من الجنرال السيسي في حواراته الخاصة، وكان يراه متواضع القدرات والإمكانات ويهزأ منه، ولكن، ما أن يخرج “على الهواء” يتحول إلى شخص مختلف تماماً، فيكيل المديح للجنرال، ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة، مشيداً بحكمته وذكائه ونجاعة قراراته. يكتب الشخص نفسه مقالات يومية، لا تخلو من النزق والتملق الفج للجنرال، لعله ينظر إليه ويعينه مستشاراً له، على طريقة “عبده مشتاق”. مشكلة هؤلاء مركبة، فهم، من جهة، يدافعون عن رجلٍ يفتقد الحد الأدنى من المهارات السياسية والقيم الأخلاقية، ولا يمتلك سوى مهارات المراوغة والكذب وصناعة الأوهام، وهم يدركون ذلك جيداً، لكنهم، من جهة أخرى، خائفون من مصارحة الشعب بذلك، خوفاً على مستقبلهم ومستقبل أولادهم ومستقبل ثرواتهم. ومن يراجع تصريحات الجنرال يكتشف مدى خوائه العقلي وضحالته المعرفية، ليس أقلها ما قاله، أخيراً، عن المشروعات والإنجازات الكثيرة التي حققها، لكنه لا يريد الإعلان عنها، خوفاً من “الأشرار”. ولو أن لدى هؤلاء الإعلاميين قليل من العقل والشرف المهني، لما فوتوا هذا التصريح “العجيب”، من دون التعليق عليه. ولو أن مرسي كان هو الذي صرّح به، لاستهزأوا به ليل نهار، ولرموه بالعته والجنون. وربما تؤشر “هيستريا” الدفاع عن السيسي، ضمن مؤشرات أخرى، على أن العد التنازلي لبقاء الرجل في السلطة قد بدأ، وأن صراع القوى المتواصل داخل النظام قد وصل إلى نقطةٍ ساخنةٍ، لم يعد فيها مكان للمواءمات والحلول الوسط، ما قد يؤدي إلى مفاجآتٍ، ربما لا يتوقعها كثيرون.