يحصل على لقب كبير الحمقى بجدارة، من يظن أن الأفكار تنتهي وتموت بالقهر والتسلط، سواء كانت الفكرة باطلة أم صحيحة، درس مهم لا يعيه كثير من الطغاة والمستبدين، ولا من يدور في فلكهم، حتى لو كانوا من أرباب الأقلام، ومدعي الثقافة والفكر، هذا هو قانون الأفكار، تبقى ولا تموت، إذا وُجهت بالقوة والجبروت، فلا يجدي معها نفعا القتل والتشريد والتعذيب والتنكيل، سواء كانت أفكارا صحيحة أم باطلة.
فهم ذلك بعض الحكام، وجهله كثير منهم، ظنا منه أنه سيأتي بما لم يأت به الأوائل، فهم ذلك من قبل هرقل قائد الروم ففي حواره مع أبي سفيان قبل إسلامه، سأله عن صحابة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يقومون به نحوهم من تعذيب وقهر، فسأله: وهل يزيدون أم ينقصون؟ فقال: بل يزيدون، فقال هرقل: وكذلك أتباع الأنبياء لا يزيدهم التعذيب إلا كثرة وصمودا.
هذا نموذج للفكرة الحقة التي لا يقوى جبروت أي حاكم على إنهائها، تثبت القانون الذي استقر في تاريخ الدنيا، ومن النماذج الدالة على بقاء الفكرة ولو كانت باطلة إذا وجهت بالقوة، نموذج مشهور في التاريخ، باسم (قراقوش) وهو بهاء الدين قراقوش، وقد شاعت عنه فكرة أنه ظالم وجبار وغشوم، حتى شاع في العبارات الشعبية (حكم قراقوش) عندما يستنكر الناس ظلم إنسان، أو تعنته وغباءه في الحكم والتصرف!
وسبب ذلك: اعتمادهم على كتاب (الفاشوش في أحكام قراقوش) المنسوب للأسعد بن مماتي، وهو كتاب مملوء بالأكاذيب عن الرجل، الذي كان أقرب أحب وزراء صلاح الدين الأيوبي إلى قلبه، يقول المؤرخ العماد الكاتب الأصفهاني: “فقال السلطان (أي صلاح الدين الأيوبي): “ما أرى لكفاية الأمر المهم؛ وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام المحرب؛ النقاب المجرب؛ المهذب اللوذعي؛ المرجّب الألمعي؛ والراجح الرأي؛ الناجح السعي؛ الكافي الكافل بتذليل الجوامح؛ وتعديل الجوانح؛ وهو الثبت الذي لا يتزلزل؛ والطود الذي لا يتحلحل؛ (بهاء الدين قراقوش) الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش”.
(وهو الذي أدار السور على مصر والقاهرة، وفات وفاق الفحول بآثار مساعيه الظاهرة، فنأمره أن يستنيب هناك من يستكفيه لتمام تلك العمارة، ونؤمره لهذا الأمر فهو جدير بالأمر والإمارة” وكوتب بالحضور، لتولي الأمور، وعمارة السور. فوصل متكفلا بالشغل، متحملا للثقل. منشرح الصدر بالعمل، منفسح السر والأمل. مبتهجا بالأمر، ملتهجا بالشكر).
فانظروا كيف استطاع كاتب ساخر تحويل حقائق هذا الرجل العظيم إلى أباطيل حوله وأنه غبي وظالم، وهو من أعظم عباقرة الحكم عدلا وقوة وذكاء، فماتت الحقيقة، وبقيت الفكرة الباطلة، لأنها لم تواجه بفكرة.
وفي التاريخ القريب أحداث كثيرة تفيد بأن الفكر لا يموت أبدا بالقتل والعنف ضد معتنقيه، فلم تستطع زنازين التعذيب، وأعواد المشانق محو فكرة، لأن للفكرة قوة لا تدانيها قوة إلا فكرة أقوى منها، وحجة أبلغ وأسطع منها وضوحا وبرهانا، هذا درس التاريخ والحاضر الذي لا يعيه كل طغاة الدنيا، وكل فراعنة مصر، فلم يكن لظلال القرآن وسيد قطب أن ينال هذا الانتشار العلمي والفكري عند الإخوان ومخالفيهم، لو أنه عاش ومات مفكرا يكتب في مكتبه كما يكتب الكثيرون، ولما طبع كتاب من كتبه هذه الطبعات المتعددة بالآلاف.
وهذا ما لا يفهمه حكم العسكر، يظن أن الفكر يمكن حبسه في زنزانة، وأن أعواد المشانق كفيلة بسحق أي فكرة، وأتباع أي فكر، وهو وهم عاشه حكام العسكر على مدار التاريخ، وعاشه الفراعنة كذلك، فهذا شأن كل فرعون، ينتهي أمره بالغرق لا محالة، ولكنه لا بد من مروره بكل مراحل الفراعنة السابقين، وكأنهم تواصوا على ألا يعي أحد منهم ما حدث لسابقيه، (أتواصوا به بل هم قوم طاغون).
لقد قام السيسي بفض رابعة والنهضة، فهل ماتت فكرة المناداة بسقوط حكم العسكر؟! يقينا لم ولن تموت، لأن درس التاريخ الأبدي والباقي: أن الأفكار لا تموت بالقوة أو الاستبداد، بل تكون مقبرة لكل من يحاربها، وصخرة عاتية يتكسر عليها المستبد.
…………………………………………