كان الناس يسخرون من الرئيس الديكتاتور الفرعون المنتخب، محمد مرسي، بالكاريكاتير والغرافيتي على أسوار قصره، يرسمون خروفاً، وينقشون على الجدران أحطّ العبارات، وأكثر المفردات بذاءة، ويعودون إلى بيوتهم آمنين.
كانت النخب السياسية والثقافية تعتبر ذلك إبداعاً احتجاجياً، ونضالاً سياسياً، تتم استضافة أصحابه في الاستوديوهات، بما يليق بأبطال مغاوير.
الآن، صار رسم كاريكاتير ينتقد عبد الفتاح السيسي على صفحةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي جريمةً تقود صاحبها إلى المعتقل، وباتت عبارةٌ في مقالٍ، أو جملة في حوار تلفزيوني، كافية لإطاحة مرتكبها.
الذين يديرون عبد الفتاح السيسي عن بُعد، يجيدون العزف، فيرفعون إيقاع الانتهاكات، ويخفضونه في توقيتاتٍ مدروسةٍ بعناية، فحين يبدو المجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة، متجهاً إلى تدليل جزار سورية بشار الأسد وتعويمه، بعد كل هذا السجل من الجرائم، تلتقط منظومة السيسي الإشارة سريعاً، وترفع منسوب القمع والمصادرة والقتل خارج القانون والعصف بالحريات.
لا يمكن النظر إلى دعوة وزير العدل إلى هولوكوست للمعارضة بمعزلٍ عن تجريد الباحث عاطف بطرس من مصريته، والتحريض على اغتيال الشابين، شادي ومالك، والإمعان في عمليات القبض والاعتقال، التي كان آخر ضحاياها فنان الكاريكاتير الشاب إسلام جاويش، بتهمة انتقاد السيسي.
ينزعج السيسي من الكاريكاتير، لأنه يدرك أنه ليس أكثر من “فوتوشوب”، أو كاريكاتير سياسي يمشي على قدمين، زعامة كارتونية مصطنعة، لا تصمد أمام تيار هواء نقي. لذا، يضعونه في “فاترينة زجاجية” مكتوب عليها “ممنوع الاقتراب والتصوير”.
بعد أسبوعين من قرصنة السيسي على الحكم، قلت إن السؤال المطروح الآن، بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب: هل سيكون مسموحاً بمعارضة النظام الجديد/ القديم الصاعد إلى سدة الحكم مشياً فوق أشلاء الديمقراطية؟
ورصدت أن الأمر، بعد انقشاع بعض الغبار عن سماء السياسة المصرية، يشير بوضوح إلى أن كل ما كان يُشتم محمد مرسي، ويُهان بسببه، يحدث الآن من السلطة الجديدة، وسط تصفيق حاد من المعارضة (أو من كانت المعارضة)، وتبريرٍ لا يتوقف لكل أعمال القتل والتنكيل والاعتقال التي تدور بلا هوادة.
وأن من كانت معارضةً تأخذ على عاتقها، الآن، مهمة الدفاع عن كل ممارسات السلطة الجديدة، وكأنهم انسخطوا جميعاً، وتحولوا إلى حالة “أحمد سبع الليل”، جندي الأمن المركزي الذي كان يحارب أعداء الوطن في فيلم “البريء”، للراحل عاطف الطيب.. ويدهشك أن بعضاً من زملاء ورفاق عاطف الطيب أنفسهم يتقمّصون شخصية “سبع الليل” حالياً في مواجهة الأعداء في “رابعة” و”نهضة مصر” و”رمسيس”.
تلك هي المسألة بدقة: أن تسكت أمام قمع وانتهاك من لا تحبهم، بل وتحرّض عليه أحياناً، لا يعني أنك في أمن من جنون السلطة التي تصفق لإجرامها، وهذا ديدن الثورات المضادة والانقلابات في تاريخ البشرية، تستخدم مجموعاتٍ من أجل الفتك بمجموعات أخرى، وحين تفرغ منها تنقض على المجموعات الأولى.
هنا، تبرز قيمة المبدئية وأهميتها، وتظهر وضاعة الانتهازية وحقارتها.. فليس أفضل من أن تكون مع الحق، حيثما كان، وتنحاز للعدل، أينما حل، فتدافع عن حق من تختلف معهم، وتطالب بالعدل لخصومك، مثلما، بل قبلما، تطلبه لنفسك.
أقول ذلك، وأنا أرى فريقاً من ضحايا الظلم والعسف لا يجدون ما يتعاملون به مع الاستقالة المدوية للقاضي محمد السحيمي، احتجاجاً على مكارثية وزير عدل السيسي وفاشيته، سوى التفتيش في المواقف القديمة للضحية، وإبداء نوعٍ من الشماتة فيه، أو بالحد الأدنى، التشكيك في الدوافع الأخلاقية لاستقالته، بحجة أنه كان ضد “الإخوان”، أو جزء من النظام الانقلابي، على نحو يذكّرك بتلك المشانق التي علقها نفر من داعمي الشرعية للمستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، بدلاً من التعاطي بجدية وإيجابية مع تقريره المزلزل عن فساد الجهات السيادية.
اطلبوا العدل ولو للخصوم، وانشدوا الحرية للجميع، لا للأصحاب والأصدقاء فقط، وراجعوا تجربة الثلاثين شهراً الماضية، ستكتشفون أنكم أكلتم يوم أكل الثور الأبيض، وأنتم تتفرجون صامتين.