لا يمكن الفصل بين “موقعة الجمل” ضد ثوار ميدان التحرير، في مثل هذا الوقت منذ خمس سنوات، و”مذبحة ملعب بورسعيد” ضد جماهير الألتراس، بعدها بعام واحد، وبين مجزرتي رابعة العدوية والنهضة قبل عامين ونصف العام.
في الأولى والثانية، كان عبدالفتاح السيسي عضوًا في المجلس العسكري، مديرًا للمخابرات الحربية التي كانت تتحكم في مفاصل البلاد في ذلك الوقت، تحرّك الأحداث، وتحتكر معرفة دقائق وأسرار كل ما يدور. وفي الجريمة الثالثة، كان السيسي بطلًا أوحد للمذبحة التي حصدت آلاف الشهداء.
هي ثلاث حروب ضد ثورة يناير، كان السيسي حاضرًا فيها، بقوة، شريكًا في إراقة الدم. لذا، بدت مضحكةً مداخلته التليفزيونية “أو مفاجأته المصنوعة بعناية”، أول من أمس، تعليقًا على الأحداث المصاحبة لإحياء ذكرى مجزرة مباراة الكرة بين ناديي الأهلي والمصري على ملعب بورسعيد.
تحدّث السيسي مفزوعًا من هتاف “الشعب يريد إعدام المشير”، على الرغم من أن الصورة التي ظهرت في لافتة الألتراس كانت للمشير العجوز، حسين طنطاوي، وليس المشير الصغير، الحاكم بأمر العسكر، مدعيًا الجهل بما جرى في بورسعيد، وهو الذي كان مديرًا للمخابرات في السلطة الحاكمة، مطلقًا تلميحاتٍ بالاتهام لكل الأطراف، إلا هو طبعًا، داعيًا الشباب إلى المشاركة في تحقيقات جديدة.
بدا لي وكأن السيسي، في مداخلته عن مذبحة الألتراس، أراد أن يصرف الأنظار عن ذكرى موقعة الجمل التي هي قدس أقداس ثورة يناير، والتي أرادها نظام مبارك، الذي كان السيسي جزءًا أساسيًا فيه، معركة لنسف فكرة الثورة من عقول متظاهري التحرير.
غير أن الوقائع تثبت لنا أن ما فشل فيه نظام مبارك/ السيسي في أوائل فبراير 2011، عاد وكرّر محاولة إنجازه في الموعد نفسه من العام التالي. وأخيرًا، نفذه بإجرامٍ منقطع النظير، في أغسطس من العام التالي، في “رابعة العدوية” و”النهضة”.
ليلة مذبحة ألتراس النادي الأهلي، قلتُ إن الناس قرؤوا رسالة بورسعيد جيدًا، منذ اللحظة الأولى، من أصغر مشجع يتمتع بحس إنساني سوي إلى أكبر نائب فى البرلمان، مروراً بالخبراء السياسيين، كان هناك إجماع على أن كارثة بورسعيد مدبرة، ومخطط لها جيدًا، في معسكرات الإعداد إياها، لمواجهة الضغوط المتزايدة من أجل تسليم السلطة وتحرير مصر من حكم الطوارئ. وعلى طريقة “نحن أو الفوضى”، أديرت معركة ملعب بورسعيد لابتزاز المصريين بفزاعات الأمن، مرة أخرى، ووضعهم أمام صورة شديدة السواد والرعب، إن هم أصرّوا على مطلب تحرير السياسة من العسكر، صونًا للاثنين معًا، غير أن كلفة هذه الصورة جاءت، هذه المرة، أفدح وأعلى بكثير من سابقاتها، 74 شهيدًا سقطوا في دقائق على مرأى ومسمع من الملايين التي تسمّرت أمام شاشات التليفزيون، ومئات الجرحى، وآلاف المكلومين من أسر وأصدقاء شهداء الملعب في بورسعيد.
لم تكن مباراة في كرة القدم بين “المصري” و”الأهلي”، بل كانت معركةً سياسيةً داميةً ضد الثورة، خطط لها ونفذها خصومها من المتظلمين من مطالبها وأصدقاؤهم من حثالات النظام السابق، فى توقيتٍ بالغ الدلالة، قبل يوم من ذكرى موقعة الجمل، وهو اليوم الذي قايضنا فيه المخلوع “أنا أو الفوضى”، وإنْ هي إلا ساعات، حتى كانت قطعان البلطجية تعمل آلة القتل والتنكيل من فوق ظهور الجمال والخيول في حشود الثوار في الميدان.
ومن العبث أن يحاول أحد قراءة هذه المأساة على ضوء قاموس الشغب الرياضي، ومن العهر أن يلقي آخرون بمسؤوليتها على الثورة والثوار، كما فعل بعض خدم جمال وعلاء مبارك من لاعقي الأحذية، المحتفظين بأماكنهم في منظومة الإعلام الرياضي حتى الآن، بعد أن تلوّنوا وغيروا جلودهم، كالحرباوات والأفاعي، نفاقًا للثورة فى أيامها الأولى، ثم انقلبوا نافثين سمومهم عليها مع أول فرصة للعودة إلى وضاعتهم وانحطاطهم.
أصيب السيسي بالفزع، لأنه اكتشف أن كل هذه السلسلة الطويلة من الضربات الساحقة للوعي لم ترهب ذاكرة الألتراس، ولم تطفئ إرادة القصاص من قاتليهم.. لم تنطل عليهم خدعة القاتل القديم الذي يوزع الطعام والكساء على بيوت أبناء ضحاياه، ممسكاً بمسبحةٍ طويلة، مقدماً نفسه في هيئة فاعل الخير الطيب العطوف.
لم يتحمل السيسي وأجهزة إعلامه ومعلوماته أن يروا علم فلسطين مرفوعًا في مدرجات النادي الأهلي، لتقول بأعلى صوت: لن نفرّط في الدم، مهما استشرس الأوغاد.
يعرف السيسي أن العشرات، بل المئات، من أصدقاء شهداء ملعب بورسعيد يعذّبون في زنازينه الآن، فكيف لا يدرك أن ذاكرة الألتراس، أقوى من الفولاذ؟