كان يجتمع بعساكره، وقال: لو حكموني، هخلي اللي بيتكلم في التليفون يدفع واللي بيسمعه يدفع، نظر في الورقة وقال: الأمن والنظافة، مش هتدفع؟ هتدفع .. هأ هأ … هوريك اللي ما شفتوش، ما دام هتدفع، إنما ببلاش، ببلاش ده أنا معرفش حاجة اسمها ببلاش، أنا بكلمكم بجد، ولازم يا مصريين تتعودوا، وأنتوا “تبدؤوا” يا جيش، إنك تاخد خدمة، إيه؟ فيرد العساكر من خلفه في نفس واحد: تدفع تمنها، ليكرر السيسي بدوره: تدفع تمنها، ويكمل: إن كان على كده، هتلاقي كوين سيرفيس، وأم كوين سيرفيس كمان!!!
والحقيقة أن المصريين بالفعل “شافوا اللي ما شافهوش”، دفعوا ولم يحصلوا على أي شيء، لا كوين سيرفيس ولا أمه!!!
المهم، أن السيسي منذ البداية، رسخ المبدأ، إن جازت التسمية، ادفع تلاقي، الدولة شركة خدمات خاصة، والشعب بل والجيش، عليهما أن يدفعا، وكما يقول التاجر اليهودي: “اللي معهوش ما يلزموش”، لا يهم أن تكون مواطنا، وأن انتماؤك للدولة، الذي يمنحها حق تجنيدك، أو أخذ أولادك إلى الحرب، والرجوع بهم جثثا هامدة، وتعويضك بلا شيء تقريبا، كل هذا لا يعني أن لك عند الدولة أي شيء، حتى نظافة شارعك، عليك أن تدفع ثمنها، لا من ضرائبك، كما يحدث في أي بلد محترم، بل فوق ضرائبك، خدمة خاصة، دولة الأغنياء، ادفع تجد، “أنا ماعرفش حاجة ببلاش”!
الحقيقة أن الجملة الأخيرة، هي أصدق ما قال السيسي، كيف يعرف السيسي “أبو ببلاش” وهو يتقاضى ملايين الجنيهات شهريا، على قعدته في مكتبه، كيف يعرف أن السواد الأعظم من المصريين الذين يطالبهم بالدفع، حتى إذا تحدثوا في التليفون، يسكنون الحواري، والعشوائيات والصفيح، ويأكلون من ري المجاري، الموضوع بعيد كل البعد عن دائرة معارف الجنرال، الجنرال لا يعرف سوى اللمبي، الذي لا يرقص ببلاش، “أنا عايز النقطة تنزل عليا زي المطر”!!
السيسي لا يعرف سوى شعبه “هو”، طبقته التي يحمي مصالحها، أما بقية المصريين، فهم هؤلاء الرعاع، القطيع، الذين ينزل بعض أولادهم المظاهرات فيمنح فرصة لمنافسيه على كنز الدولة في تنحيته، ليأتوا هم، وبناء عليه، فإما القتل، وإما السجن، أو في حالات الضغط، بعض السهوكة والاسترضاء.
السيسي بدأ حكمه، بمذبحة تخلص فيها من أقوى معارضيه، صفاهم، قتلا، جسديا، نفسيا، معنويا، دمرهم، حاضرا، ومستقبلا، ثم التفت ليتسلى على الباقين، من كل التيارات، الكل نال نصيبه، حسب وزنه، وحضوره، كلنا لنا في ذمة السيسي الخربة أموات، أحياء عند ربهم يرزقون، وربما يتحسرون على حال مصر، لا تفارقهم حسرتهم حتى وهم في أعلى مقام!!
الآن يظهر السيسي، ليتكلم، مداخلة في برنامج، مع عمرو أديب، وواحدة ثانية لا أعرف اسمها، كانا يضحكان، متفائلين، مستبشرين، منبعجين، يكادان أن يتفحما من شدة الضوء في ضحكاتهما البلاستيكية، وتبعهما ثالث، ليؤكد أن ظهور السيسي في التليفزيون هو أعلى مراحل الصدق الإنساني، مجرد أن يرفع سماعة التليفون ويتكلم، اسم الله عليه اسم الله عليه!!
السيسي يتحدث إلى من؟ القناة مشفرة، يلزمك لكي تسمع الرئيس المزعوم أن تكون واحد من اثنين: لديك اشتراك، أو حرامي، “سارق وصلة”، يمكنك طبعا أن تجمع بينهما، حال كونك لديك اشتراك لأنك حرامي، المهم أن السيسي تحدث بالأساس للأغنياء، لمن لديهم رفاهية أن يدفعوا، ليحصلوا على خدمة تليفزيونية أفضل، أفلام حصرية، ومسلسلات، وأغاني لـ “عمرو دياب”، ومعه واحد اسمه منير “كورال”!!
يتحدث السيسي إلى شعبه إذن، إلى هؤلاء الذين جاؤوا به، “اللي بيدفعوا”، فلوس، وتأييد، وموالسة، وتحمل لمسؤوليات أخلاقية ودينية، وتاريخية، على سفك الدماء، وهتك الأعراض، وهرس الآلة القمعية للحم الناس، وعظامهم، الأغنياء من ناحية، و”اللي سارقين وصلة” من ناحية أخرى، بؤس الغنى، وبؤس الفقر، رسائل للجميع:
مصر تنهار، السيسي “اكتشف” مشكلات كثيرة لا يريد أن يحكي عنها “عشان مش عايز يكسر بخاطر المصريين”، الدولة كبيرة وقوية، السيسي يقول إن عنده أمل في “ربنا”، طبعا لا يوجد خطة، لكن السيسي يقول للجميع: إن ربنا “هيوفق” لأن “كل” النوايا طيبة، و”كل” الضماير مخلصة وشريفة، هذا هو كلامه بالنص، ليس ذلك فحسب، السيسي مستعد لأن يستمع للأولتراس، قتلوا أصحابهم في بور سعيد، وبرؤوا من استأجروهم لقتلهم، وتركوهم يصرخون في الفضا، أربع سنوات، لكنهم الآن، أخيرا، لديهم استعداد للسماع، بشرط، ألا يهتم الأولتراس بدماء أصدقائهم فقط، ولكن بكل المصريين، وألا ينتظروا منه هو شخصيا أي شيء، تعالوا واقعدوا وشاركوا وشوفوا “إنتوا عايزين تعملوا إيه”، أي كلام فارغ، وغير معقول، لكنه على كل حال مساحة لملء الهوا، فقرة في برنامج!!
السيسي اعترف أن بداية الانهيار كان من هزيمة 67، سقوط دولة يوليو، تفكك شرعتها، بالمناسبة: السيسي منذ خطاب “نور عنينا”، إلى ما قبل مكالمة عمرو أديب، وهو يحكم بشرعية يوليو، يوليو 52، ويوليو 2013، الآن يخبرنا أن الأولى كانت كارثة، بدأ مع هزيمتها انهيار الدولة!!
عمرو أديب سأله عن إسلام جاويش، والردود كانت بالطريقة نفسها، مش زعلان، والله ما بازعل من حد، إسلام رسام كاريكاتير، ينتقد السيسي، قبضوا عليه، وحققوا معه، وكادوا أن يجبروه على التوقيع على محضر جاهز يفيد إدانته، لولا تمسكه بحقه في عدم التوقيع دون محامي، ثم قامت عليهم حملة كبيرة على مواقع التواصل، زملاء إسلام فشخوهم، حرفيا، فاضطروا للإفراج عنه، وظهر السيسي ليخبرنا أنه “مش زعلان”، وكلامه في الغالب صحيح، لأن القبض، والسجن، والتحقيق، كل هذه إجراءات ما قبل “الزعل” السيسي لما يزعل، يقتل على طول، “احنا فاضيين”؟!!!
الشاهد: الدولة تنهار، هذا كلامه، يبقى أن نضيف مقصده، دولته تنهار، دولة السيسي وعساكره، مستعد لأن أجلس مع الأولتراس، “مش زعلان” من إسلام جاويش، تعالوا احكموا معايا، “ضفر” أي مصري، مش دمه، غالي عندي، السيسي في دور قصافة، ربنا هو اللي هيساعدنا عشان احنا طيبين ومخلصين، عشان الناس الغلابة، ولأجل خاطرهم، إلى هنا انتهى كلام خالة أم أحمد.
السيسي خائف؟ طبعا، ممن؟ من أن تشكل حركة الجماهير، التي توشك على الانفجار، خطرا حقيقيا، منذ متى وهي خطر، ومعك الدولة وكل مؤسساتها؟! منذ أن أفلتت منه بعض مؤسسات الدولة، وتحركت حسابات إقليمية ودولية باتجاه استمراره حال “قدرته” على ذلك، أو رحيله، دون اضطرار لتحمل المزيد من فواتير فشله، حال تحرك الناس، هنا أصبح للناس عند العسكري وزن، باعتبارهم جزء من معادلة رحيله!
ما المطلوب؟ أن نستغل هذا الخوف، نتحرك، لا إلى حراك، ولكن إلى خطة، ثم يأتي الحراك، من يفعلها؟ بكل أسف، لم ينجح أحد، إلى الآن، لنتحرك نحن إذن دون نخب أو قادة، لا حاجة لنا بهم، كلام فارغ، وساذج، وغير مسؤول، ولا يقول به عاقل، أو شخص قرأ كتاب واحد في حياته عن الجماهير، وأحوالهم وتقلباتهم النفسية العنيفة في الثورات، بل أقول دون مجازفة، إن من يردد هذا الكلام الفارغ لم يقرأ تجربة الأعوام السابقة، ولم يعش فيها بعقله ليوم واحد، ثورات شعبية بلا خطة وقادة، هي مقدمات لثورات مضادة ناجحة، متى؟!!