منذ قديم الأزل ورغبة الإنسان في انتقاء ما يريد من أمور، سواء أكان أشياء أو بشر سر تعاسته، بخاصة إذا ما لوى عنق الحقائق التي لا يستطيع التدخل لجعلها تسير وفق حسابه، وإذا طمع إلى أن يكون سيد هذا الكون الأوحد متناسياً إن هناك إلهاً هو الذي ينظم كونه، وإنه، الإنسان، مفردة من مفردات هذا الكون والوجود والأرض، وإن علا بالعقل إلا إن له حدوداً لن يستطيع تجاوزها لإن واهبه العقل أقدر منه على عقله وعليه، ولذلك أعطى بقية المخلوقات قدرات .. وأبقى لنفسه، سبحانه، القدرة النهائية في التحكم في الإنسان لتسيير أمور الكون وتنظيم الدنيا، والأخير مخيّر له أن يفعل ما يشاء فيما يخصه، أما فيما يخص الكون بل عمارة الأرض وتسيير أمورها، الجانب الجماعي من الحياة فإن الإنسان مسير لحفظ الحياة واجتماع الناس .. وإلا لاستبد كل إنسان بأحد جوانب الحياة وأراد الخير كله لنفسه دون غيره سواء من البشر أو الموجودات.
آدم عليه السلام، بإرادة الله تعالى، سخر الله له شجر الجنة يأكل منها حيث يشاء إلا شجرة واحد لا علة في تحريمها عليه، في ظاهر الأمر إلا اختبار طاعته لربه، أما في باطنه فتحقيق مراده تعالى من إنزاله إلى الأرض، بحسب التقدير الجمعي لرب العزة لحياتنا جميعاً، فما كان من سيدنا آدم، عليه السلام وأمنا حواء إلا أن انتقيا الشجرة المحرمة عليهما ليأكلا منها في مقابل ما وسس الشيطان لهما بإن خلودهما من تناول ثمارها، رغم كل شىء كان حب الانتقائية والبقاء في الحياة إلى أبد الدهر سبباً كافياً للأكل من الشجرة المُحرمة.. أما “قابيل” بن آدم فإنه كان من المفترض أن يتزوج من أخته غير التوأم من أجل استمرار الحياة.. إلا إنه رفض لإن الأخت التوأم له ..رآها أفضل، وأختار الانتقائية في أقسى صورها لما قتل آخاه “هابيل” الأحق بتلك الأخت ، انتقائية أن يحيا مختاراً الخير كله لنفسه، ثم يهيم على وجهه من بعدها في الارض فلا هو تزوج الأخت المقدرة له .. ولا هو بالذي ترك أخاه يتزوج بل “أهدى” البشرية طوفاناً من الجرائم لا ينتهي إلى يوم القيامة، وعليه وزر وإثم كل جريمة منها حتى يوم القيامة ..
الانتقائية والتعجل في اختيار ما يُخيل إلى نفس صاحبه إنه خير سبب عصيان أتباع الرسل والأنبياء، عليهم السلام، لطريق الكفر وعقوق الإله، والعياذ بالله، وقتل الأنبياء، هؤلاء يرون عدم الالتزام بعقيدة أكثر راحة لحياتهم ولهرولتهم وجريهم خلف الدنيا، وآخرون يظنون أنفسهم من القوة بمكان ..فلا يستطيع أحد في الوجود إيقافهم عند حدودهم، وآخرون في سبيل تحقيق مصالح وقتية يضيعون حق غيرهم في الحياة، وهكذا أضرت تلك الانتقائية الفاجرة الفجة بحق الإنسان في العيش في هناء.. اللهم مَنْ رحم ربي، وجعلته ماداً لليد في سبيل نيل ما ليس له .. وأغفل عقله عن التفكر في حقيقة الأمر، ورؤية سيئة التبعات المترتبة عليه.. وجعلته يقع في من من الحروب والمنازعات التي أفنت جزءً ليس بالقليل من التاريخ، بل إن صاحب هذه الكلمات لا يكون مبالغاً إذا قال إن جوهر الدعوة في جميع الأديان ترك الانتقائية وإسلام الأمر لرب العزة، وعدم التعلق بما في الحياة الدنيا، ومعرفة إن الإنسان لن ينال مراده منها مهما حاول واجتهد ودقق وأخطأ وأجرم، وإنه سينال حقه من الانتقائية على النحو الذي يحب لكن ليس فيها وإنما في دار آخرى بها الانتقائية التي يريد دون أن يلهث أو أن يلوي عنق الأشياء والأشخاص ..
كان ترك هذه الانتقائية أبرز دعوة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا أشراف قريش منتقون لنيل خيرات مكة دون غيرهم، ولا العبيد المغلبون على أمرهم منتقون ليكونوا خدماً لملذاتهم فقط، ولا الأصنام التي لا تعي وبالتالي لا تستطيع التكليف بما يحفظ أمر الحياة والمجتمع .. وبالتالي تترك الحبل على الغارب لهؤلاء الذين يظنون أنفسهم سيستطيعون نيل خيرات الوجود بمفردهم، والدعوة لترك هذه الانتقائية والسير خلف “مشروع حضاري لعمارة الأرض” كان أبرز دعوة الرسول العظيم بعد تسليم الأمر كله إلى الله..
تلك الانتقائية التي تحض النفس صاحبها عليها ليقع في فخ المشكلات المستعصية وليضيع عمره خلف الأماني والاوهام.. وليعاني الحروب والأوهام والسجن.. وإن نجا من كل ذلك حتى حين عاش مؤرق الوجدان، مشتت العقل، عاجز الضمير عن اختيار وفعل الصواب، ووقع تحت نير عذاب الجبار في الآخرة لإنه لم ينجح في تحقيق مراده تعالى من خلقه بحسن طاعته، وإيثار ما لديه على في الحياة الدنيا .. تلك الانتقائية التي تدفع عدداً غير قليل من البشر للبعد عن حب الله ثم حب الحياة والسعي لنيل أغلى وأعز ما في الحياة لنفسه دون غيره، ويصل الأمر به إلى إفساد حياة غيره ظاناً إنه بذلك ينعم بالراحة والطمأنينة ..وإنه سيحقق راحتيّ الدنيا والآخرة أو كما قال صاحب الجنتين:”إنما أوتيته على علم عندي”!
يوم يقدم كل منا مراد الله على مراده، ويترك التكالب على نيل أغلى وأعز ما في الحياة لنفسه، ويوقن إننا إنما نسعى في الأرض والوجود بإذن الله تعالى، وإن علينا السعي فيها وليس لنا إدراك التوفيق .. وإننا راحة نفوسنا وأبداننا ومن قبل أرواحانا في ذكره تعالى:”الذين آمنوا وتطمئن نفوسهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن النفوس”، وإن سعينا في الوجود محكوم برضا رب الوجود “ولا تنس نصيبك من الدنيا”، وإن راحة الدارين في طاعته تعالى .. يوم نودع الانتقائية من حياتنا ويأذن الله بأن تسود أمتنا من جديد وتتولى مهمة عمارة الأرض مرة ثانية!