يتصارع، في الساحة السياسية المصرية، كيانان ضخمان تتضاءل بجانبهما الكيانات السياسية الحزبية، ناهيك عن تلك التواقة للتعبير عن الثورة الشعبية العظيمة، على عقول وأفئدة المصريين سعيًا للتسلط على شعب مصر وأقداره.
الكيانان في الجوهر تسلطيان، واحد باسم الإسلام الحنيف والثاني بإسم الوطنية، مختزلة في الولاء المطلق المؤسسة العسكرية مختزلة بدورها في القيادات للعليا للقوات المسلحة لشعب مصر، أي المؤسسة العسكرية. ضخامة الحجم تستمد من كبر عديد التنظيم واتساع نطاق السيطرة على الاقتصاد، ويتفوق الثاني على الأول باحتكاره للعنف المنظم بقوة السلاح.
ولامناص من تبيان أن لكلا التنظيمين ولاءات خارجية قوية تتجاوز متطلباتها رعاية مصالح شعب مصر، الأول بالانتماء إلى تنظيم دولي يفترض ان يمد جذورا إلى أمة الإسلام المنتشرة في ارجاء المعمورة نشأ بارتباطات استعمارية، والثاني بدأ وتنامى بقوة منذ وقع السادات اتفاقية “كامب ديفيد” اللعينة والتي فتحت الباب للولايات المتحدة، أي إسرائيل، للتأثير على مقدرات القوات المسلحة لشعب مصر، بالتمويل والإمداد بالسلاح والذخيرة والتدريب المتكرر للقيادات، وآية ذلك غير المنكورة أن العقيدة الحربية لجيش شعب مصر قد تحولت تحت قيادات “كامب ديفيد” من قتال العدو التاريخي، الدولة العنصرية الغاصبة إسرائيل، إلى حمايتها ولو على حساب الإضرار بشعب مصر.
ولا مناص ايضا هنا من الإقرار بأن جميع فصائل تيار اليمين المتأسلم في سعيه للسلطة والتمسك بها قد قدم للولايات المتحدة ولإسرائيل ضمانات مماثلة تقوم على التمسك بمعاهدة “كامب ديفيد” باعتبارها معاهدة دولية.
في منظور السياسة المصرية، يقوم الكيانان على ذهنية متماثلة قوامها الأمر من الأعلى والتسليم المطلق من الأدنى في تسلسل هرمي جامد من المراتب. ولذلك فإن الكيانين، يعاديان الحكم الديمقراطي السليم و يقتاتان على نهش الدولة المدنية الحديثة وتدمير بنيانها المحدود والمختل القائم حاليا.
ولكن لأن الكيانين متماثلين في جوهر العقيدة “الدينبة” الطابع وكل منهما يمتلك تقديرا واقعيا لفوة الآخر يسعى كل منهما لاختراق الآخر أو تحييده. ولأنهما متوحدان في الغاية النفعية، والمناهضة أساسا لغايات الثورة الشعبية العظيمة التي اندلعت موجتها الأولى في يناير 2011، فقد قامت بين الكيانين علاقة صراع محوره تبادل الحب والكره أشبه بزواج المصلحة النفعي الذي يواجه عواصف مدمرة كلما توتر الصراع تبعا لاختلاف المصالح أو تعارضها. فتكررت محاولات الثاني للانقلاب على الأول، وكذلك تعددت محاولات تحجيم النفوذ التي عادة ما أخذت شكل التعايش السلمي ولكن بلغت حد حرب الإبادة من قبل الحكم العسكري لعناصر وبُنى تيار اليمين المتأسلم كما استن الطور الحالي من الحكم العسكري الذي بدأ بإسقاط حكم اليمين المتأسلم في 3 يولية 2013.
لكن محاولة الحكم العسكري قصم ظهر تيار الفصيل الكبر من تيار اليمين المتأسلم ، جماعة الإخوان، تمادت فيما وراء الاضطهاد السياسي إلى ارتكاب انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان يبلغ بعضها حد الجرائم ضد الإنسانية، ما يقوض مشروعية الحكم العسكري في البلدان الغربية التي يهتمون برضاها أكثر من رضى الشعب.
كما أن الحكم العسكري ابقى، مخالفا للدستور الساري، على فصيل من التيار على الساحة السياسية، ممثلا في حزب “الزور” السلفي، ابقاء على منطق زواج المصلحة النفعي، وربما تخفيفا من غلواء الاقصائية المقيتة، وأكيدا لإرضاء داعمي الحكم العسكري ومؤيديه من قوى الرجعية العربية في هجمة الثورة المضادة على المد التحرري العربي، الذي انطلق في نهايات 2010 في عموم البلدان العربية.
مناورات المصالحة
في هذا السياق أصبح التلويح بمصالحة جماعة الإخوان طقسا متكررا ومعتادا عشية سفر رأس الحكم العسكري لدولة غربية أوالمملكة الوهابية يتأمل أن يحصل من حكومتها على تأييد حكمه أو على الاقل التخفيف من حدة اعتراضها على سياساته القمعية الباطشة.
مثلا كان للمناورة الأخيرة قبل السفر لبريطانيا أهمية خاصة نطرا للوجود القوي تقليديا لجماعة الإخوان فيها.
لذلك كان التلويح بالمصالحة قويا. غير أن رأس الحكم العسكري قد تراجع اثناء الزيارة عن هذا التلويح القوي، مدعياأن القرار بيد الشعب وزاعما أن الشعب لا يريده. ومع ذلك عاد النظام إلى التلويح بإمكان المصالحة عبر قرارت القضاء الموالي قبل زيارة بريطانيا ثم في بدايات ديسمبر بعد زيارة للسعودية بنقض أحكام الإعدام على عشرات من قادة جماعة الإخوان وتخفيف احكام أخرى.
على هذه الخلفية، أظن أنه من الضروري ملاحظة الأمور التالية:
إن رأس الحكم العسكري يتوجه بهذه التلويحات أساسا للدول الغربية والعربية المساندة للحكم العسكري والعالم الخارجي عموما، وفي وسائل اعلامها، ما يقطع بأنه يستجلب رضى هذا الدول ويعتبرها كعادة أنظمة الحكم التسلطي الفاسدة جميعها مصدرا لشرعيته. وقد يعود مرة ثانية إلى حديث المصالحة بعد الزيارة الأخيرة للسعودية بمناسبة المناورات، بضغط سعودي هذه المرة.
كذلك يستخدم الحكم العسكري القضاء كرأس حربة في مناورات المصالحة وبشكل مهين يحط من قيمة القضاء واحكامه، أولا في إصدار أحكام ظالمة إلى حد العبث، ثم عشية المناورات في التخفيف من الأحكام أو حتى نقضها. وفي مجموعة الأحكام التي سبقت الإشارة لها دليل قاطع على تسييس القضاء المصري واستغلاله أبشع استغلال من قبل سلطة الحكم الراهنة، من خلال العبث باستقلاله. ولأهمية القضاء المنصف والمستقل للدولة المدنية الحديثة التي نروم نتمنى أن يربأ أهل القضاء بأنفسهم عن هذا المنزلق المهين.
هذا الكاتب دعا دوما إلى رفع الظلم عن كل مظلوم، وهم بعشرات الألوف في مصر. وكنت دائما وسأظل ما حييت، وعلى الرغم من معارضتي القوية علنا لحكمهم في اوج سلطتهم، مع المطالبة باحترام الحقوق الإنسانية لأعضاء جماعة الإخوان ومناصريهم وقد تعرضوا في ظل الحكم الراهن لظلم بشع، يضر ليس فقط بسمعة أجهزة الأمن والقضاء، ولكن بسمعة مصر كلها وأهلها ما بقي هذا الظلم.
إلا أن التجاوزات الأمنية والقضائية البشعة تشمل كثيرين غير الإسلاميين لابد من أن تشملهم المصالحة.
ومن شديد الأسف أن تصريحات الرئيس الأخيرة لا تعبر عن رغبة جادة في رفع الظلم عن جميع المظلومين، فمازال يتبنى افتراءات أجهزة الأمن بأن ليس هناك من مختفين قسريا في مصر، وبأن التجاوزات البشعة حتى ضد الأجانب ليست إلا حالات فردية، كما كان ويريد أن يقنعنا، وكأننا سذج جهلاء، أن بعض المُخفين قسريا ليسوا إلا هاربين كانوا يريدون الاتحاق بداعش. إن كان يصدق ما يقول، فيتعين أن يخضع لكشف عن سلامة قواه العقلية.
إن المصالحة المطلوبة في نظري تمتد إلى جميع أهل مصر. فقد ارتكب الحكم العسكري في حقهم جميعا إساءات بالغة تتعدي التجاوزات الأمنية وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، التي طالت الجميع، إلى الخسف بمستوى معيشتهم بل وتهديد حياتهم (بتسليم مقدرات تدفق نهر النيل لإثيوبيا).
مع ذلك أخشى أن تتحول المصالحة القادمة إلى جولة جديدة من زواج المصلحة النفعي بين المؤسسة العسكرية واليمين المتأسلم الذي وإن كان قد انتهى بطلاق غير بائن مع الإخوان ما زال قائما مع السلفيين.
أرى أن على القوى الوطنية والثورية جميعا أن ترفض وتعمل ضد أن يقوم، مرة اخرى، تحالف عسكري-ديني يقاوم الثورة الشعبية العظيمة باضطهاد نشطائها من حميع الانتماءات السياسية ويمنع من نيل غاياتها في الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية بالابقاء على الحكم التسلطي الفاسد الذي قامت الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه، ولم تفلح حتى الآن.