في أواخر الثمانينات حاول طلاب كلية الإعلام في جامعة القاهرة دفع أعضاء هيئة التدريس بها – و قد كنت أحدهم – إلى استصدار قرار يمنحهم الحق في احتكار نسبة معينة من فرص العمل في المؤسسات الصحفية. كنت أدرك أن بعضهم على الأقل ربما يكره موقفي عندما أعلنت اعتراضي على مطلبهم. كانت حجتي هكذا: إذا كنتَ قد أمضيت أربعة أعوام في دراسة أصول المهنة، و ربما أتيحت لك أيضًا فرصة التدريب العملي أثناءها، ثم تقدمتَ إلى اختبار عادل لدى إحدى المؤسسات، ثم فاز بالفرصة العادلة أحد خريجي كلية الزراعة أو التجارة أو حتى من لم يدرس في جامعة على الإطلاق فهنيئًا له، و ربما حق عليك أنت أن تنتحر في ميدان عام.
أعود الآن فأدرك كم من الجرائم ارتُكب باسم الفرصة “العادلة”، و كم ينخر الفساد في جسد مصر، من وقتها، و من قبل وقتها، و من بعده. و إلى أي مدى تقف على رأس هذا الفساد دولة نشأت في أوائل الخمسينات قررت أنه لا مكان للكلمة الحرة التي تنير طريقًا أمام شعب أو تفرض رقابة على سلطة وصولًا إلى مجتمع أفضل، لا يهم في ذلك إن كنت مؤهلًا أم لا. إذا كان واحد من أكثر المناصب خطورة، كقيادة أكبر الجيوش العربية، قد ذهب فورًا إلى من لم يكن مؤهلًا، فماذا تنتظر؟
كان جمال عبد الناصر قد اجتمع بالصحفيين مساء 7 مارس/آذار 1954، و قال لهم وفقًا لأحد أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة آنئذ ما معناه: “ضعوا في اعتباركم أن الجيش الآن أصبح عاملًا أساسيًّا في التأثير على السياسة .. ممنوع الحديث عن الانشقاق بين محمد نجيب و المجلس .. احذروا عند الكتابة عما يمس السياسة الخارجية و الاقتصادية .. قوموا بحملة في ما يخص موضوع انتخابات الجمعية التأسيسية التي ستناقش الدستور الجديد”. صار رئيس الجمهورية من وقتها رئيس تحرير مصر، حتى اليوم (باستثناء فترة قصيرة في الطور الأول من أطوار ثورة 25 يناير). حتى حجة الإخوان الآن، أو الذين “يحترمونهم”، عندما يحاولون “المن” على الناس بمقارنة ما نحن فيه الآن بما كنا فيه أيام الرئيس السابق محمد مرسي، لم تكن لتصمد أمام قناعتي – المبنية على حقائق مجردة – بأن ذلك لم يكن من قبيل الكرم أو الإيمان بالكلمة الحرة بقدر ما كان عجزًا عن اختطاف “رئاسة التحرير” في الوقت المناسب أمام قوتين متنافرتين على أية حال: دولة عميقة كانت تترصدهم، و شباب حر كان قد بدأ يشب عن الطوق
رئيس الجمهورية في مصر الآن يحسد عبد الناصر، و يرى أنه “كان محظوظًا بإعلامه”، و لا يوجد لديّ شك في أنه حقًّا يؤمن بأن الإعلام تابع و خادم و مسهّل لمهمة الحاكم كما يراها الحاكم، و أن عدا ذلك خروج عن الأدب و عن الوطنية. ذلك ما كان يراه مؤسس الدولة الإعلامية الجديدة و خلفاؤه.
لكنّ عبد الناصر – إلى جانب إنجازاته الحقيقية في مجالات العدالة الاجتماعية و الصناعة الوطنية و الهيبة الحقيقية لجواز السفر المصري و غيرها -كان أيضًا على الأقل من الشجاعة و الوضوح بحيث فرض رقيبًا مباشرًا مقيمًا في المؤسسات الصحفية للوقوف أمام أثر نظرية “القصور الذاتي” التي كانت لا تزال تحمل في طياتها أجيالًا ولدت و تربت و تعلمت و أبدعت في ظل نظام سابق مختلف عما قرر له هو عندئذٍ أن يكون.
و رغم ما نعلمه جميعًا من نهاية سوداء لذلك النوع من “الإعلام” في يونيو/حزيران عام 1967، فإن رئيس مصر الآن – بغض النظر عما يزعمه من “إنجازات” في مجالات العدالة الاجتماعية و الصناعة الوطنية و الهيبة الحقيقية لجواز السفر المصري – يحاول الآن أن يقوم بما لم يجرؤ حتى عبد الناصر على القيام به: سحق الإعلام الحر إلى غير رجعة.
لأن مدى صحة الإعلام الحر يرتبط إيجابيًّا بمدى صحة المجتمع بشكل عام، فإن مصادرة المجال العام، من حياة سياسية إلى مجتمع مدني إلى اقتصاد كامل إلى إبداع فني/أدبي/ثقافي/بحثي، لا يمكن أن تكتمل إلا بسحق أي نفَسٍ لإعلام حر. في الطريق إلى هذا، لا بد من مرحلتين أساسيتين تحتوي كل منهما على خطوات محددة، في ما يلي أبرز ملامحها.
المرحلة الأولى، مرحلة التفكيك: في إطارها تُستغل حالة الخوف التي أصابت كثيرين و ألقت بهم إلى 30 يونيو، ممزوجة بحالة الذعر من “سايكس- بيكو” الجديدة، و مآلات “سوريا و العراق”، و مؤامرات “حروب الأجيال المتعددة”، من أجل تعطيل العقول نحو الهيستيريا، و تهيئة النفوس نحو التلقي، و نزع ميل الإنسان الفطري للتعاطف مع الضحية. يسهل عند ذلك تحويل شريحة مستضعفة من أصحاب الكلمة الحرة إلى عبرة يغض المجتمع الطرف عنها في أفضل تقدير. و يسهل أيضًا عند ذلك أن يتطوع الواقفون قرب ذلك الخيط الرفيع الذي يفصل بين الخوف و التواطؤ فيعبروا إلى الناحية الأخرى دون أن يعدموا حجة في تبرير العبور.
المرحلة الثانية، مرحلة إعادة التركيب: في إطارها تُستغل حالة الإرهاق الذهني و العصبي الناتجة عن المرحلة الأولى، ممزوجة بحالة من فقر الخيال و ضيق الأفق و الأنانية، من أجل استدعاء ماضٍ مزيف “مريح” في لفافة مُزوَّقة.
هكذا تعاد صياغة المشهد الإعلامي في مصر. لكنّ رئيس مصر الآن يحاول الذهاب به إلى ما هو أبعد: سحقه تمامًا إلى غير رجعة. طريقه إلى هذا الهدف هو “القانون”، و لا وقت لديه للتزويق. لقد جرب – حتى قبل أن يُعلَن “رسميًّا” رئيسًا للبلاد – مصادرة الشارع عن طريق “قانون” ظاهره يحافظ على حق أصيل للمواطن في التظاهر، و باطنه يجرّمه. ثم جرب بعد هذا مصادرة إرادة أمة بأكملها عندما دفع قبل ساعات من جلوسه على المقعد بـ “قانون” مجلس النواب، قبل أن ينسق مكتبه بعد جلوسه على المقعد بشكل مباشر مع مسؤولين داخل مبنى المخابرات العامة المصرية – وفقًا لأحد أعضاء حملته الانتخابية سابقًا – للتأكد من وصول من يريد هو إلى “تمثيل” الشعب.
اليوم، يجرب السيسي مرةً أخرى، هذه المرة مع مجال له به اهتمام من نوع خاص. اسأل السيد “غوغل” أن يبحث لك عن “القانون الموحد لتنظيم الصحافة و الإعلام”، سيقول لك إنه من نحو ثلاثين شهرًا – عندما بلغ نجم السيسي أوجه – بدأ الإعداد لـ “قانون” موحد لتنظيم الصحافة و الإعلام، و أن الحكومة “وافقت” عليه أكثر من مرة و أن تسريبات بشأن مواده تظهره بمظهر حامي حمي أصحاب الكلمة الحرة، و أن ما بين السطور قصة أخرى.
في نشوة الإسراع نحو محو ذاكرة لا تنمحي، و نحو إعادة هيبة لا تعود، يبدو أن من الصعب أن تصل إلى السيسي نصيحة الرئيس الأمريكي الراحل، جون إف كينيدي، لأن من شأنها أن تزيد من ذعر من يستغل ذعرهم ذعرًا لن يقدر عليه أحد: “هؤلاء الذين يجعلون الثورة السلمية مستحيلة يجعلون الثورة العنيفة حتمية”.