عند منتصف يوليو قبل أكثر من مائتي عام كانت الثورة الفرنسية تؤرخ لنفسها بسقوط الباستيل (14 يوليو 1789م)، وهو الحدث الفاصل في مسيرة فرنسا حتى الآن. وقبل منتصف يوليو قبل ثلاثة أعوام كان مرشد جماعة الإخوان المسلمين د. محمد بديع، يصدح في الملايين المحتشدة في اعتصام رابعة: سلميتنا أقوى من الرصاص! وعند منتصف يوليو قبل أسبوعين كانت تركيا تشهد محاولة انقلاب عسكري لم تلبث أن أجهضت، ويتوقع أن تكون هذه المحاولة الفاشلة بداية جديدة لتاريخ المنطقة. فماذا يربط بين هذه الأحداث وماذا ينبغي أن نتعلم؟
أولاً: منتصف يوليو ـ فرنسا 1789:
حاولت السلطة الملكية في فرنسا فرض ضرائب جديدة، حيث كانت البلاد قد دخلت في أزمة مالية ضخمة عند خروجها من حرب السنوات السبع وبما أنفقته من أموال لدعم الثورة الأمريكية ضد غريمتها المملكة المتحدة، إلا أن هذا كان القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ تململت الطبقة الثالثة في “مجلس طبقات الأمة” (البرلمان)، وهي الممثلة للشعب، وعزمت على رفض توجه السلطة، فأغلقت هذه الأخيرة البرلمان في وجوههم، فتوجهوا إلى ملعب التنس وهناك عقدوا جلسة رغم أنف السلطة، وبدأت مراحل التوتر السياسي.
تدهور الوضع أكثر فأكثر، وعند منتصف يوليو شاع أن الملك لويس السادس عشر قد استدعى الفرق العسكرية الأجنبية التابعة له من سويسرا وألمانيا لإنهاء الشغب والعصيان الشعبي، لا سيما وقد لاحظ فتورا من العسكر الفرنسي في المواجهات السابقة. وما إن تسرب هذا الخبر إلى الشارع حتى خيمت في الأفق أجواء مذبحة “سان بارثليمي” التي نفذت في باريس منذ مائتي عام (1572م، وفيها أباد الكاثوليك البروتستانت حتى وصلت تقديرات القتلى عند بعض المؤرخين إلى 30 ألف قتيل)، فصعد أحد الزعامات الشعبية على الأعناق حاملا مسدسه هاتفاً: “إلى السلاح إلى السلاح، فانطلقت الجماهير خلفه إلى المستشفيات تستولي على الأسلحة، ثم انطلقت إلى سجن الباستيل لتستولي على البارود. وبعد معارك لم تدم طويلا استسلمت الحامية في سجن الباستيل، وصار الشعب مسلحا..” وعند هذه النقطة تحديدا، يبدأ التأريخ للثورة الفرنسية، وتبدأ تنازلات السلطة الملكية، ويبدأ الشعب الذي امتلك القوة في المعركة التي تصنع مصيره.
ثانياً: منتصف يوليو: مصر 2013:
وقع الانقلاب العسكري على الرئيس المصري محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية في مصر وصاحبة الشعبية الهادرة، وعملياً فإن جميع من رفضوا الانقلاب اندرجوا خلف الإخوان المسلمين لاتساع شعبيتهم وما عُرِف عنهم من خبرة سياسية طويلة ولكونهم أكثر المتضررين المباشرين من هذا الانقلاب.
كان قرار الإخوان هو الاحتشاد والاعتصام السلمي في ميدان رابعة العدوية، مع تسيير المسيرات السلمية الهادرة، وكانوا يعتقدون أن مشهد الحشود الهائلة مع الالتزام بالسلمية سيمثل ضغوطا على السلطة العسكرية الانقلابية وإحراجا لها أمام “المجتمع الدولي” و”الرأي العام العالمي” وسيدفع بأجنحة من الجيش إلى الاعتراض على الانقلاب.
ثم إن لحظة الارتباك الحاصلة، حيث لم يكن الانقلاب متوقعاً لديهم على الإطلاق (رغم سائر الشواهد والتحذيرات)، كانت تستعصي على اعتماد مسار ثوري، فدفعهم ذلك إلى إجهاض كل حديث يدعو إلى التسلح داخل صفوف رافضي الانقلاب، كذلك فإن الحملة الإعلامية التي تتهمهم بالإرهاب وتتهم الاعتصام بالمسلح دفعتهم أكثر وأكثر إلى التبرؤ من كل هذا.
وكانت ذروة هذه المعطيات وخلاصتها هي ما هتف به المرشد العام فوق منصة رابعة “سلميتنا أقوى من الرصاص”، وهي الكلمة الواضحة الصريحة، أمام الجمع الحاشد، من أعلى رأس في الجماعة، بما ينتفي معها كل خطأ في النقل أو التأويل.
ظل الاعتصام أربعين يوما، وظلت أطرافه ومسيراته تتعرض للرصاص، حتى جاءت المذبحة التاريخية والمحرقة التي أحالته إلى دماء وأشلاء وركام.. ولا يزال الانقلاب العسكري يترسخ يوما بعد يوم!
ثالثاً: منتصف يوليو: تركيا 2016:
عند منتصف يوليو 2016، تحركت دبابات لتغلق جسر البسفور وتغلق طريق مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، وفي أنقرة كانت الطائرات تهاجم مقر المخابرات.. ثم بدأت بعض الدبابات تنتشر في الشوارع، لا أحد يعرف شيئا، هل هذا انقلاب أم تحرك لمواجهة الانقلاب؟ ما الذي يجري؟!
خيم الوجوم والفزع على الوجوه، وتوجه الناس إلى ماكينات البنوك لسحب الأموال، المحلات صارت ترفض الشراء ببطاقات البنوك، رئيس الوزراء ظهر في اتصال هاتفي يتحدث عن محاولة انقلابية، يتسرب خبر عن رئيس المخابرات بالمواجهة حتى الموت.. الشعب يتسرب من الشوارع إلى البيوت تدريجيا، حتى ظهر أردوغان في اتصال هاتفي. وكانت تلك اللحظة هي بداية انقلاب الانقلاب..
ظهر أردوغان كزعيم يوجه الشعب، يقول: الدبابات التي في الشوارع غير تابعة للشعب، سيطروا على مطار أتاتورك، حاولوا اغتيالي وقصفوا المكان، على الشعب أن ينزل إلى الشوارع لمواجهة الانقلاب، لا بد من تحرير مطار أتاتورك. هنا فقط، بدأ تسرب الناس مرة أخرى من البيوت إلى الشوارع، وجهتهم معروفة، روح مقاتلة، خرج الناس إلى حيث الدبابات عند المطار والبسفور ومقر الأمنيات الرئيسي (الشرطة) ومقر بلدية إسطنبول ومقرات العدالة والتنمية.. صدحت المساجد بالتكبيرات، هتف الناس في الجنود: عودوا إلى ثكناتكم يا خونة. أجابهم الجنود بالرصاص وبالدهس بالدبابات والمدرعات، الناس رغم بسالتهم يتفرقون، الجمع الحاشد عند مطار أتاتورك تفرقه طائرة حربية تقترب من الرؤوس فينبطحون جميعا على الأرض.. ظل المشهد هكذا حتى ظهرت العناصر المدنية المسلحة تسليحاً خفيفاً، والتي بدأت في تبادل إطلاق النار مع جنود الجيش.
هنا بدأ انقلاب المعركة، وهنا بدأت مرحلة جديدة من رد فعل الناس الذين احتموا بهذه العناصر القليلة لكنها منظمة ومدربة، وصاروا يعملون –بنظام فطري يظهر في حركة الجماهير دائما -كدعم وإسناد وتغطية لهذه العناصر.. عندئذ تحرر مطار أتاتورك ثم الأمنيات وبعد فترة مقر البلدية وعند الصباح استسلم الجنود على البسفور، فيما ظلت المعارك دائرة حتى عصر اليوم التالي في أنقرة.
كانت سيارات مدنية –لا يُعرف حتى الآن ما إن كانت تابعة للشرطة أم للقوات الخاصة التابعة لأردوغان-تهتف بالناس إلى النزول مع وعد بالتسليح، كانت القوات الخاصة عند الأمنيات تقول للناس: إذا هُزِمنا فمخازن السلاح مفتوحة (كافة ما أقوله هنا سمعته من شاهدي عيان على الأقل في كل موقف)، وهكذا بدأ فشل الانقلاب في تركيا.
رابعاً: دروس
1. إذا امتلكت الشعوب القوة بدأت مسيرة انتصارها على الاستبداد أو على الاحتلال، وإذا فقدت القوة فهي مهما كثرت كقطيع الأغنام يفرقها ويلتهمها ذئب واحد أو كحظائر الدجاج يذبحها جزار واحد! ولذلك كان المعتاد عند كل احتلال أن يكون الإجراء الأول سحب السلاح من الجماهير، وتجريم من يوجد في بيته سلاح، وإغراء كل من لديه سلاح بتسليمه. وهذا فصل ظاهر في كل قصة احتلال.
2. للجماهير طاقة هادرة قوية، وبسالة لا يقف أمامها شيء، لكن هذه الطاقة والبسالة لا تؤتي ثمارها إلا بزعامة توجه إلى هدف واضح وتثير الحماسة والأمل، وبغير القيادة فالجماهير وطاقتها غثاء متناثر متشتت، وبغير الهدف فالجماهير وطاقتها مهدورة مبذولة في الهتاف أو المسيرات أو الدعاية أو الاحتجاج غير المؤثر، وبغير الأمل فالجماهير وطاقتها تنفجر في نفسها وتأكل بعضها.
ونضرب هنا مثلا لقوم حالهم يفجر ثورة هائلة لكنهم بغير قيادة ولا هدف ولا أمل، فماذا فعلوا؟ ذكر المقريزي في أيام الشدة المستنصرية أن وزير الدولة حضر يوما على بغلته فهجم عليه الناس حتى أخذوا البغلة فأكلوها، فعاقبهم بأن شنق عددا منهم، فانهمر الناس يأكلون جثث المشنوقين. لاحظ أنهم لم يهجموا على الوزير، ولم يدافعوا عن الجائعين، بل أكلوا الجثث.. تخيل لو كانت لهم قيادة توجههم إلى هدف، ماذا كانوا يفعلون بهذه الطاقة؟!
3. اللحظة الفارقة: فالجماهير ليست تحت الطلب، وهي لا تثور عندما تُستدعى، ثم إن حضور الجماهير ليس مؤثرا في كل لحظة.. فلو تأخرت حركة الجماهير في فرنسا لسحقتهم الكتائب الملكية، ولو تأخرت حركة الجماهير في تركيا لاستسلموا للانقلاب وتمَّ الأمر. وهذا أمر تلمسه القيادة وتشعر به، فإن فرطت فيه فليست بقيادة ولا تستحق مسمى الزعامة! ومن هنا فإن من يطيل في زمن مواجهة الانقلاب في مصر إنما هو على الحقيقة لا يفعل إلا أنه يمكن للانقلاب ويرسخ له.
4. صحيحٌ أن منهجية التجنيد في الدولة العلمانية الحديثة تجعل الجندي عبدا مستعدا في كل وقت لتنفيذ ما يصدر إليه من الأوامر مهما كان، حتى قال كيسنجر عن العسكر: “إنهم مجرد حيوانات غبية يستخدمها الساسة”.. نقول: هذا صحيح، ولكن الصحيح كذلك أن الجنود ليسوا مؤهلين في كل وقت لتنفيذ الأوامر غير الأخلاقية؛ ففي فرنسا كان الجنود الفرنسيون ينهزمون أمام الشعب ولا يقاتلون قتال المستبسل فلجأ الملك إلى الكتائب الأجنبية، وفي مصر امتص العسكر الصدمة وظلوا عامين يعملون على تهيئة الجنود وإعدادهم، حتى صار أولئك الجند الذين يُشك في تنفيذهم أوامر إطلاق الرصاص على المتظاهرين يوم 25 يناير، صاروا أجرأ على الدماء بعدها حتى وصلوا إلى لحظة المذبحة التاريخية التي قتلوا فيها مصلين وهم يسجدون وحرقوا فيها مسجدا ودخلوه بأحذيتهم، والآن كشفت الصور أنهم يتدربون على اقتحام المساجد في ثكناتهم وعروضهم العسكرية.
ولهذا فإن طول الزمن هو في صالح المستبد المتمكن الذي يمتلك القوة لا في صالح الثورة وحركة المقاومة، ولهذا أيضاً، فإن محاولة تهوين الصراع وتمييعه وجعله محصورا في شخصيات بعينها مضر ومضل، لأن المعسكر الآخر يشحن للمعركة بكل قوته وطاقته وبلا أي نوع تهاون، فتصير النتيجة صراعا بين طرف لا يأخذ الأمر بجدية، وطرف يقاتل مشحونا بعقيدة قتالية صارمة