شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

غرناطة.. رائحة الدموع والياسمين – منتصر مرعي

غرناطة.. رائحة الدموع والياسمين – منتصر مرعي
في الساعات الأخيرة قبل الرحيل، طفقت أذرع أزقة "البيازين"، أطوف في أحشاء المدينة، أرى طيف الصبية الحسناء العارية التي تنحدر مسرعة من أعلى التلة "وشعرها الأسود مرسل يغطي كتفيها
في الساعات الأخيرة قبل الرحيل، طفقت أذرع أزقة “البيازين”، أطوف في أحشاء المدينة، أرى طيف الصبية الحسناء العارية التي تنحدر مسرعة من أعلى التلة “وشعرها الأسود مرسل يغطي كتفيها، وعيناها الواسعتان يزيدهما الحزن اتساعا”. وألمح من بعيد حسن الوزان يغادر المدينة من باب نجد على ظهر بغلة إلى المنفى. حاولت أن أوقف الصبية لكنها لم ترني، وصرخت أنادي حسن الوزان لكنه لم يسمعني.

في عام 2006 حلقت الطائرة فوق إسبانيا، ولم يكن زائر السماء قد نزل في تلك الأرض بعد. شاب لا يعرف عن الأندلس إلا القليل من روايات التاريخ والكثير من الأساطير. هل أنبش التاريخ وأقتفي أثر الحقيقة؟ لا أبالي، فأنا طفل أخفق في الشعر والنثر والرسم، خانته لغته بالكلام ولم يبق في تلافيف رأسه سوى تلك الصورة الحالمة. أودعت وريقاتي من فوق السحاب أمنياتي وأحلامي المؤجلة، ولم أدر أن القدر سيقدح في ذات العام صدفة اللقاء. 

جــادك الغيــث إِذا الغيـث همـى … يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُمًــا … فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ
 

في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، ركبت الطائرة من هولندا لزيارة الزميل تيسير علوني القابع في إقامته الجبرية في غرناطة. كنت أحب أن أسميه تيسير الغرناطي، وهو ابن الشام غادرها طريدا إلى إسبانيا، واستقر به المقام في قرية “الفخّار” على أطراف المدينة. يا لحظي الجميل الذي ساقني إلى هذا الرجل وهذه المدينة. أرسل تيسير الفتى الذي كنته قبل الغروب إلى ساحة “سان نيكولاس” في أعلى حي البيازين. وقفت هناك وجها لوجه أمام قصر الحمراء. عند النظرة الأولى، توردت أسوار الحمراء كالحسناء في خدرها. استلت من الشمس قبل أن تتوارى أحمر الشفاه، وكنت أنا أذوب في سحر الجميلة. كيف لا وأنا تغويني مدينة أكثر مما تغويني امرأة.

“كل شوق يسكن باللقاء.. لا يعول عليه”، أليس كذلك؟ وأنا يا ابن عربي لم يسكن شوقي في اللقاء ولا في الغياب.. ومذاك لم أخلف موعدي بغرناطة، زرتها في كل عام أجدد الوصل، أقف في ذات المكان وأذكر الحمراء باللقاء الأول. وهذا عامي العاشر، غادرتها ولم تغادرني، أردد في خاطري ما قاله ابن غرناطة لسان الدين بن الخطيب:

يـا أُهيْـلَ الحـيّ مـن وادي الغضـا 
وبقلبـــي ســـكَنٌ أَنتـــم بــهِ 
ضـاق عـن وجـدِي بِكُم رحْبَ الفضا 
لا أبــالى شــرقَه مــن غربــهِ 
فــأعيدوا عَهْــدَ أنسٍ قــد مضـى 
تُعْتِقـــوا عــانيكمُ مــن كرْبــهِ

مضت أربع ساعات وأن أسير بلا توقف، تطرق ذاكرتي رحلة السنوات العشر في حب المدينة وهدير الأزمنة الصاخبة، الظالمة، المقيمة في حواريها.. تطاردني نظرات سعد ودعوات مريمة، أصوات علي في دكاكين الوراقين، صيحات سليمة، وعزم الثائرين في جبال البشارات. وقبل أن أودع البيازين، مشيت في الطرقات هائما، لا أعرف سبيلا للخروج، وكل ممر يعيدني منّي إليّ، حتى استوقفني زقاق ضيق مكلل بالياسمين. 

عبرت الزقاق إلى فناء صغير يتوسطه مقعد خشبي، ويطل على بيوت البيازين التي تستلقي أسفل التلة. أغضمت عيناي، أوغلت في حزني يبكى بعضي على بعضي معي، وفي غفلة مني ضمتني وطبعت قبلة على خدي لامست فمي.

كنت أواعدها سرا، تواطأنا على ذلك، واليوم بحنا بحب كتمناه طويلا. وبعد أن قطعت وعدا بأن لا تتركني وحيدا، غادرت غرناطة وأنا أعوّل على ذكراها.. على راحة الدموع والياسمين.

للاطلاع على المقال الأصلي هنا 



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023