كان لافتا للنظر تلك الحملة الشرسة، التي تعرض لها الدكتور محمد البرادعي فور بث حديثه مع شبكة التلفزيون العربي، حيث عملت كافة الحسابات، والمواقع، والفضائيات الموالية للسلطة، على توجيه ضربة قاضية (من وجهة نظرهم) لشخص البرادعي للإطاحة به سياسيا، من خلال بث تنصت على مكالماته، كان أهمها مع الفريق أول سامي عنان، رئيس أركان الجيش المصري سابقا.
ورغم أن حديث البرادعي وما جاء فيه؛ لم يكن يستدعي تلك الحملة وتلك السقطة التسريبية، إلا أنه على ما يبدو كان هناك في السلطة من يتوجس خيفة من هذا الحديث، خاصة أن البرادعي كان شريكا أساسيا في 30 حزيران/ يونيو و3 تموز/ يوليو 2013 وما بعدهما ، كما أن البرادعي – من وجهة نظر كثيرين – يحمل ظهوره مؤشرات ذات دلالات، ربما تعبر عن مواقف دولية تجاه السلطة في مصر، وربما تؤشر لتحركات مستقبلية، ولكن على كل الأحوال كان حديث البرادعي في مجمله عاديا ولم يحمل ثمة جديد.
غير الأمر الأشد لفتا للنظر في معركة السلطة مع البرادعي؛ كان تلك السقطة الكبيرة في بث حديث البرادعي مع الفريق أول سامي عنان، وما تحمله من دلالات خطيرة للغاية، تؤشر إلى أن الدولة المصرية تعاني هشاشة وفوضي غير مسبوقة على المستويين الأمني، والسياسي، بما يعطى انطباعا أنه لا يوجد في مصر خطوط حمراء أو قانون ضابط لأيقاع المؤسسات السيادية، حيث أصبحت أحشاء الدولة المصرية متدلية للناظرين والعابثين، ومكالمات قائد كبير لأهم مؤسساتها مخترقة وتستخدم أداة للكيد السياسي عبر الفضائيات والبرامج التلفزيونية.
ورغم أن تسريب مكالمة البرادعي مع الفريق عنان ليس بالتسريب الأول لحوارات أو مكالمات لمسؤولين أو سياسيين في مصر، إلا أنه الأشد خطورة؛ لأنه لم يكن ليصل إلى تلك الفضائية، وهذا البرنامج تحديدا، إلا عبر جهة من داخل النظام ذاته، بما يعني انفراط عقد الثقة في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، حتى تلك التي من المفترض أن تتولي الحفاظ على الدولة وسرية معلوماتها واتصالاتها، وبدا أن كل شيء في مصر بات غير أهل للثقة، وهذا في حد ذاته يهدم فكرة الثقة في الدولة ويهدد وجودها والولاء لها.
لقد بدا واضحا أن هناك استهتارا بأمن مصر القومي، يسري في أوصال مؤسسات الدولة، بما يطرح الثقة جانبا في قدرة هذه المؤسسات على حماية نفسها ويقدح في قدرتها بالأخص على حماية الدولة من الاختراقات، وتلك طامة كبرى تُفقد أي شعب ثقته في دولته، ويجعل الولاءات تبدو عرضة للبيع والشراء، وللمواقف والمكايدات السياسية مما يهدد كيان الدولة ووجودها.
وهنا يطرح تسريب البرادعي عنان سؤالا يدور في أذهان الكثيرين، وهو: إذا كان هناك اختراقات بهذا المستوي بيد من يُفترض حمايتهم للدولة لمؤسسات أخرى يُفترضُ أنها تحمى الدولة، فكيف هو حال الاختراقات الخارجية لتلك المؤسسات وللدولة المصرية عموما؟
قد يرى البعض هذا التسريب عاديا، غير أن الحقيقة تؤكد أنه خطير للغاية، وفضيحة على المستويين المحلي والدولي، ولا يمكن أن يحدث إلا في دولة هشة لا تبالي مؤسساتها والقائمون عليها بأمنها القومي، وهنا تصبح الدولة في قلب الطريق السريع نحو الدولة الفاشلة.
في مقياسها السنوي للدول الفاشلة أو الهشة، تستخدم مجلة فورن بوليسي الأمريكية بالتعاون مع “منظمة الصندوق من أجل السلام” 12 معيارا رئيسيا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لقياس مدى فشل الدول، وأخشى ما أخشاه أن مصر تسير نحو هذا الطريق إذا استمرت على هذا المنوال.
فالمؤشرات السياسية التي يشير إليها التقرير تشمل فقدان شرعية الدولة بسبب فساد النخبة الحاكمة، وغياب الشفافية والمحاسبة، إضافة إلى ضعف الثقة في المؤسسات الرسمية، وعدم التطبيق العادل لأحكام القانون، وانتشار انتهاكات حقوق الإنسان وفقدان الأمن.
و تتمثل المؤشرات الاقتصادية في غياب التنمية الاقتصادية المستدامة لدى الجماعات المتباينة، وتراجع المؤشرات الكبرى، كالدخل القومي والميزان التجاري وسعر صرف العملة الوطنية، وغيرها من المؤشرات.
وبالنظر لواقع المشهد في مصر فإن تسريب “البرادعي عنان” وغيره من التسريبات الشهيرة والخطيرة، التي تم بثها من قبل، عندما تنضم إلى ما تعيشه مصر منذ الثالث من تموز/ يوليو 2013 على كافة الأصعدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا، فإنها تضع علامات استفهام كبرى حول صلاحية النظام الحاكم في الاستمرار، وتقدح في إمكانية خروج مصر من هذا المأزق التاريخي الذي يعيشه المصريون الآن.
لذلك لم يكن مستغربا أن تحتل مصر المركز الثامن والثلاثين للدول الأكثر “هشاشة” وفقا لتقرير مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية لسنة 2016، ومن بين قائمة ضمت 178 دولة، حيث كانت ليبيا المجاورة لمصر في المركز الخامس والعشرين، واحتلت لبنان المركز الأربعين.
لقد كان تسريب التنصت على حديث البرادعي مع رئيس أركان الجيش المصري، وبهذه الطريقة سقطة كبرى، ويحمل دلالات خطيرة، ولا يمكن أن يمر مرور الكرام في أي دولة أخري، ما لم تكن من الدول الهشة.