شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

رمضان مع النيل ..حالة مصرية خالصة – فادي رمزي

رمضان مع النيل ..حالة مصرية خالصة – فادي رمزي
    يخطىء كثيرا من يحصر "الحالة الرمضانية" التى تمر بها البلاد...

 

 

يخطىء كثيرا من يحصر "الحالة الرمضانية" التى تمر بها البلاد مرة واحدة كل عام فى البعد الإسلامى للشهر الكريم فقط … وربما يكون العذر الوحيد المقبول لمن يظن هذا هو انه لم ير ابدا رمضاننا.
فى هذا الشهر تلوح فى الأجواء مشاعر التقرب الى الله، من خلال السعى للخوض أكثر فى الأجواء الدينية النقية المتميزة بشعائرها الخاصة، وذلك أملا فى الوصول إلى الصفاء النفسى والتسامى الروحى والتماس الحكمة والمشورة والبركة الإلهية. هربا من اعباء الدنيا الفانية، وتخفيفا عن ذنوب تتفاوت فى اوزانها أملا فى العفو والمغفرة.
كل هذه المشاعر السامية بالتأكيد تنساب فى الأجواء ما ان نستمع إلى "مرحب شهر الصوم مرحب لياليك عادت فى آمان"، وخالدة الذكر "رمضان جانا وفرحنا به" … حتى نصل إلى "والله لسه بدرى والله يا شهر الصيام" و"يا ليلة العيد أنستينا" ..
 
هذه الأجواء المعبقة بتلك المشاعر الدينية الصوفية النقية، والتى تتشابه فى طابعها مع الأسبوع الأخير من الصيام الكبير ذو الطابع الخاص المكثف للشعائر الدينية التى تتزامن مع صيام ما قبل عيد القيامة، بالتأكيد يتأثر بها كل "مصرى" … فهى حالة من الوجد والشجن الدينى التى لا يمكن ان تتجاهل تأثيراتها … فالتقارب فى العيشة واسلوب المعيشة يجعل تجاهل كل هذه الأجواء أمرا مستحيلا، ولكن يحتاج فقط للتأمل بنفوس هادئة صافية متسامحة حتى نعرف كم يكون تأثيرها ملموسا.
 
إن رمضان المصرى بإيجابياته الروحانية له طابع خاص لا يمكن التغاضى عنه أبدا، فصلاة التراويح قد تكون واحدة فى اى دولة إسلامية، ولكن اداءها فى جامع عمرو مثلا بمصر القديمة … الراسخ بجانب الكنيسة المعلقة … بالتأكيد له طابع خاص من وحى الأجواء التاريخية الحميمية التى تغلف كل قيام وركعة، ومن النادر ان تجد مثيلاً لطابعها فى أى مكان فى الدنيا.
وحتى السلبيات السلوكية التى تصاحب بعض من يظنون ان الصيام رخصة للإهمال والتكاسل والتواكل والعصبية، هى حالة مصرية خاصة … تؤثر على كل مصرى على أرضنا … ولها طابع مميز طبعا يعكس بمنتهى الوضوح المفاهيم التى يجب ان نعمل كلنا على تصحيحها .. 
 
فبدون الفهم التام لجوهر الصلاة والصيام، عند كل من له الحق فى الحصول على باسبور أخضر، ومعرفة كيف يجب ان ينعكس هذا الفهم للجوهر على حياتنا خارج دور العبادة وعلى تعاملاتنا وسلوكياتنا المهنية والإجتماعية … لن تتقدم بلدنا حتى ولو حكمنا ملاك من السما.
اول اتصال لى شخصياً بشهر رمضان، بكل كرمه وروحانياته العالية، كان عمرى وقتها لا يتعدى الست سنوات سوى بشوية … كانت والدتى، رحمها الله بقدر حبى لها، تأخذنى قبل اطلاق مدفع الإفطار بدقائق قليلة إلى شاطىء النيل الواقع بنهاية شارع بيتنا، محملين بساندوتشات العيش الفينو الرفيع المعبأ بالجبن الرومى والأبيض أو التونة والحلاوة اذا تزامن رمضان مع ايام صيامنا.
 
ننتظر سويا ونحن جالسين على سور كورنيش النيل، معنا راديو ترانزيستور صغير ظل رفيق كفاح أمى طوال حياتها التى اعرفها … بدأ عفيا متماسكا معها، وانتهى مغلفا بالبلاستر للحفاظ على تماسك جسده مع البطارية … نستمع الى الراديو فى انتظار "مدفع الإفطار إضرب"، ومعنا رفقاء الكورنيش الرمضانيين: استاذ عبد الحميد الصياد، الإسم الثانى يعبر عما كان يداوم على فعله وقت الغروب ومعه عمود أكل يكسر به صيامه … وكنا نتبادل دوما التحيات والسؤال عن الإحوال وعما إذا كان الراديو قد بدأ فى بث صوت الآذان.
 
الطريف ان هذا الراديو كان موضوعا فى جراب به صورة السيدة العذراء، ويخرج منه صوت مدفع الإفطار والآذان فى تناغم مصرى أصلى يوضح الحالة الرمضانية التى من الصعب ان تجدها فى اى بلد أخرى.من رفقاء الكورنيش الرمضانى بعض العاملين فى مستشفى الشرطة القريبة من الكورنيش، الذين انهوا وردياتهم متأخرين وفشلوا فى العثور على وسيلة مواصلات تعيدهم الى بيوتهم قبل موعد الإفطار، فبالتالى يأتون متسلحين عادة بساندويتشات الفول والطعمية، ويجلسوا على مقربة منا ليكسروا صيامهم …. دوما على صوت الآذان الصادر من الراديو بتاعنا.
 
مع تكرار الجلسات اصبحنا شبه عائلة رمضانية كورنيشية … وساهم فى تقاربنا سريعا هدوء الأجواء وصوت آمال فهمى العذب وهى تصدح بالإغ المميزة لها بـ "فواااازييييير رمضان" … زجل سهل متمكن يقطر مصرية، يحكى عن شخصية مشهورة نجتمع على معرفتها، أو عن آداة من ادواتنا لا نستغنى عنها، أو آكلة لا نجدها سوى على سفرتنا … إلى آخر ما تفرزه زينة بنات أفكار صلاح جاهينّا ..كنا نلتف كالأطفال حول الراديو … عفوا هم كانوا يلتفون كالأطفال انا كنت طفل اصلى وقتها … واول شخص يقول "عرفتها" ننظر له متسائلين غير راغبين فى معرفة الإجابة … ونقضم ساندويتشاتنا محاولين هضم كلمات الفزورة جيدا حتى نتبين المقصود منها. اتذكر مرة عرفتها قبلهم … أو يمكن اكون تعجلت فى قولها قبلهم … ولكن سماحتهم جعلتنى اعود للمنزل مع والدتى محملا بسمكة اصطادها عم عبد الحميد مع ملبسة من أحد رفاق الكورنيش … بتاعنا.
 
تبادلنا خلال سنوات رمضان الكثير من التحيات والضحكات والساندويتشات … التى طورت والدتى فيها تدريجيا وزادت من عددها، حتى نعمل حساب "اصحابنا" … وصارت "ساندوتشات الدكتورة أم فادى" لها رونق خاص، ويتم إفتقادها إذا ما تغيبنا عن أحد مواعيد إفطارانا، وبالمثل كانت "المقايضة" بساندوتش الفول بالعيش البلدى … المحبش بطعم الشارع المصرى … وهى مازالت تمثل لى الفزورة الحقيقة التى لم اعرف حتى الان حلها، لماذا يختلف جذريا طعم الفول البيتى عن أخوه الشوارعى؟؟
 
هذا هو رمضان كما أراه … مصرى أصلى له ابعاد نفسية دينية إجتماعية إقتصادية غذائية مرورية يجب ان تعترف بوجودها كده بعبلها بسلطاتها ببابا غنوجها … لا تفصص فيه أو تظن أنك تنفرد وحدك ببركاته وتأثيراته. 
بل حاول فقط ان تعمل على تنمية ايجابياته حتى تطغى وتسود على كل لياليه وايامه ..
رمضان كريم علينا جميعا قادر يا كريم ..
 
المصدر: رصد 


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023