شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

الحصاد المرير لانقلابَيّ عسكر مصر المشؤومين

الحصاد المرير لانقلابَيّ عسكر مصر المشؤومين
بقلم: ثابت عيد قام عسكر مصر بانقلابهم الأوّل سنة ١٩٥٢م ضدّ الملك فاروق والاحتلال الإنجليزيّ. ثُم قاموا...

بقلم: ثابت عيد

قام عسكر مصر بانقلابهم الأوّل سنة ١٩٥٢م ضدّ الملك فاروق والاحتلال الإنجليزيّ. ثُم قاموا بانقلابهم الثّاني ضدّ الشّرعيّة والدّيمقراطيّة سنة ٢٠١٣م. ما يجمع الانقلابين هو شهر يوليو الّذي صار شهرًا مشؤومًا، فيما يبدو، في تاريخ مصر الحديثة. سمّى العسكر أنفسهم سنة ١٩٥٢م "الضّبّاط الأحرار". وسمّوا انقلابهم في البداية "حركة"، ثمّ ادّعوا لاحقًا أنّها ثورة، مع أنّها كانت انقلابًا عسكريًّا بامتياز. حكم العسكر مصر بالنّار والحديد ستّين عامًا بالكمال والتّمام. أسّس جمال عبد النّاصر أوّل ديكتاتوريّة عسكريّة مصريّة في العصر الحديث.

قوانين الدّيكتاتوريّات وسننها معروفة على مستوى العالم. فهي تقوم على القمع، والإرهاب، والتّرويع، والتّخويف، والبطش، والكذب، والتّضليل، والنّفاق، والجهل، ناهيك عن العمالة والخيانة – من ناحية، وتخدير النّاس من ناحية أخرى. أسّس العسكر بداية من جمال عبد النّاصر أجهزة مخابرات إجراميّة لا همّ لها إلّا ترويع الشّعب المصريّ الطّيّب. مارس صلاح نصر الإرهاب والتّرويع تجاه أبرياء شعب مصر.

واعتمد العسكر في حكمهم مصر وشعبها على جهاز شرطة متوحّش، وظيفته الأساسيّة هي إرهاب الشّعب، وإذلاله، وترويعه، وحماية النّظام، وتقديس الحاكم. غرس العسكر في رؤوس المصريّين عن طريق أبواق دعايتهم المختلفة أنّ الحاكم ليس حاكمًا، بل هو الملك-الإله، تمامًا كما كان يفعل المصريّون القدماء مع فرعون.

فلم يكن مستغربًا مثلا أن يعنوّن الصّهيونيّ جيل كيبل أطروحته للدّكتوراة بعنوان: "النّبي والفرعون" – إشارة إلى صراع السّادات مع الجماعات الإسلاميّة في مصر (انظر إلى مراجعتي لهذا الكتاب). وبعد.

ناصب عبد النّاصر العلم منذ البداية عداء شديدًا. فحرص على تجويع العلماء. وأوهم الشّعب بتعليم مجانيّ. فكان مستوى التّعليم في مصر يسير من سيء إلى أسوأ طوال حقبة الدّيكتاتوريّة العسكريّة المقيتة (١٩٥٢م-٢٠١٢م). صارت الشّهادات المصريّة غير معترف بها في أي دولة من دول العالم المتقدّم، بعدما كانت دول العالم تعترف بالشّهادات المصريّة في عصر الملكيّة المصريّة. توسّع العسكر في نشر التّعليم الرّخيص، وأهملوا عمدًا أو جهلا الارتقاء بالمستوى العامّ للتّعليم وجودته. فصارت القاعدة هي "الكم"، وليس "النّوع". أصبح لدينا جامعات مصريّة كثيرة، لكن مستواها جميعًا في الحضيض، مقارنة بالجامعات في الدّول المتقدّمة. وبعد.

حرص جمال عبد النّاصر على تضليل الشّعب المصريّ وتخديره. ففتح خزانة الدّولة لوسائل إعلام مضلّلة، وصناعة سينما رخيصة، وإنتاج فنّي لا همّ له إلّا تخدير النّاس وصرفهم عن التّفكير. ولا عجب في ذلك. فمنذ ديكتاتوريّة الرّومان القديمة صار مبدأ "الخبز واللّعب" مبدأ أصيلًا لأي ديكتاتوريّة بغيضة. وهذا يعني أنّ أيّ ديكتاتور يريد استعباد شعبه، لابدّ أن يوفّر للنّاس الخبز للبطون، واللّعب للعقول.

 حرص عبد النّاصر على توفير السّلع الغذائيّة بأسعار رخيصة، حتّى يكسب ودّ العامّة السّاذجة. وأغدق بالأموال على أدعياء الفنّ من مطربين، وممثّلين، لكي يقوموا بوظيفة محدّدة تهدف إلى تخدير النّاس ومنحهم سعادة وهميّة. صارت حياة معظم المصريّين في عصر عبد النّاصر تتكوّن من عدّة ساعات عمل، بدون عمل، في مصلحة حكوميّة، يعقبها تناول وجبة الغداء، ثمّ أخذ قسط من الرّاحة، قبل الاستمتاع بنسمة المساء واللّيل مع أغاني أم كلثوم، وأفلام فريد شوقي. وبعد.

لعلّ منهجيّة الكذب والتّضليل الّتي اتبعها مجرمو عسكر مصر هي أكثر ما يصدمني ويُثير استنكافي وتقزّزي. فهم عندما استولوا على الحكم بعد انقلاب ١٩٥٢م، أعلنوا تحويل مصر من الملكيّة الإقطاعيّة إلى الجمهوريّة الاشتراكيّة. وأسّس عبد النّاصر ما سمّي بـ "الاتّحاد الاشتراكي". لكن ما حدث على أرض الواقع لم تكن له أيّ علاقة بالاشتراكيّة المزعومة في أغلب الأحيان.

ولنتأمّل مثلًا استيلاء العسكر على القصور الملكيّة الكثيرة في شتّى أنحاء مصر. حيث خدعوا الشّعب بحيلة بسيطة، عندما غيّروا اسمها، من "قصور ملكيّة"، إلى "قصور جمهوريّة"!! فصارت حلالًا عليهم، بمجرّد تغيير اسمها!! والرّأي عندي أنّ هذا هو قمة التّضليل. ففكرة القصور الملكيّة تناقض من أساسها فكرة الاشتراكيّة أصلًا. لكن العسكر كانوا ومازالوا أشدّ النّاس حرصًا على النّهب، والتّضليل، والاستمتاع بالحياة.

وهذا يذكّرني بتعليق العبقريّ البريطانيّ جورج أورويال عندما جعل الخنازير في روايته الرّائعة "مزرعة الحيوان" تقول: "جميع الحيوانات متساوية، لكن هناك حيوانات أكثر مساواة"!! فلتتأمّل، أيّها القارئ الكريم، كيف تمكّن أورويال من سبر غور الفكر الدّيكتاتوريّ المضلّل. ولتتأمّل كيف مارس مجرمو العسكر هذا التّضليل الإجراميّ مع شعب مصر الطّيّب أكثر من ستّين عامًا انتهت بمصرنا إلى أسفل سافلين. وبعد.

تمكّن عسكر مصر من تخدير المصريّين تمامًا. فلم يكن مستغربًا أن نسمع موشيه ديّان يسخر من المصريّين وأسلوب حياتهم، بعدما سحق جيش إسرائيل الجيش المصريّ في سنة ١٩٦٧م، حين قال: "المصريّون يعملون حوالي نصف ساعة يوميًّا، ثمّ يقضون بقية يومهم في الاستماع لأم كلثوم"!! ملأ العسكر حياة المصريّين طربًا وفنًّا رخيصًا، تعويضًا للفقر والجهل والمرض. وأوهموا النّاس أنّ هذه هي الحضارة بعينها، والمدنيّة بعينها، والتّقدّم بعينه.

لم يأخذوا من الحضارة إلّا قشورها. وهكذا مرّت الأيّام والسّنون على مصرنا الحبيبة ونحن نتأخّر كلّ يوم سنوات طويلة إلى الوراء، لأنّ الآخرين كانوا يعملون، وينتجون، ويبدعون، ويُصدّرون، ويتقدّمون، في الوقت الّذي كنّا نحن فيه نهدر وقتنا بسماع أم كلثوم، ومشاهدة الأفلام والمسرحيّات السّخيفة، ناهيك عن كرة القدم المتأخّرة جدًّا عالميًّا. وبعد.

يستطيع أيّ إنسان ملاحظة مكانة اللّهو والتّسلية في حياة الشّعوب المتقدّمة، ومدى اختلافها عن نظيرتها لدى الشّعوب المقهورة المتخلّفة. ففي الدّول المتقدّمة يحتل العمل صدارة اهتمامات النّاس واحترامهم. وهم يردّدون دائمًا المقولة الشّهيرة: "العمل أوّلًا، ثمّ اللّهو". لكن الدّيكتاوريّات العسكريّة تفرض على النّاس "اللّهو ثمّ اللّهو"!! الشّعوب الّتي تكدّ وتعمل وتجاهد وتجتهد وتبدع تشعر بمتعة مضاعفة عندما تخصّص عدّة ساعات من حياتها للتّسليّة واللّهو كلّ أسبوع.

لكن الشّعوب المحكومة بالنّار والحديد غالبًا ما لا تفكّر إلّا في اللّهو والتّسليّة، نظرًا لمرارة العيش، وصعوبة الحياة اليوميّة. والأمر هنا يتعلّق بمنظومة شاملة تبدأ بالطّبقة الحاكمة وتنتهي عند المواطن العادي. فعندما تخطّط الطّبقة الحاكمة لتخدير النّاس، وصرفهم عن التّفكير، وشغل عقولهم بالسّخافات، فإنّها تسارع إلى رعاية ما يسمّونه "فنونًا". فتنفق ببزخ على من يُسمّون "الفنّانين"، و"المطربين"، و"لاعبي كرة القدم"، لكي يقوموا بتسلية النّاس، وملأ حياتهم "فنًا"، و"كرة قدم"، و"طربًا".

لا مكان للعلم، ولا الثّقافة في أيّ نظام ديكتاتوري قمعيّ. بل يحرص كلّ ديكتاتور على قمع المثقّفين الحقيقيّين، والعلماء النّابهين. وفي مقابل هذا نرى حكومات الدّول المتقدّمة تحثّ شعوبها على العمل، والإنتاج، والإبداع، والاختراع، ومنافسة الآخرين. وتوفّر للنّاس الأجواء المناسبة للعمل، والظّروف المثاليّة للإبداع. وتقدّم للمواطنين الحقائق، أو على الأقلّ لا تحرص على تضليلهم. وبعد.

من المؤسف له حقًّا أنّ الغالبيّة العظمى من المصريّين مازالوا غير مدركين لما حدث لمصر في حقبة الدّيكتاتوريّة العسكريّة المقيتة. صحيح أنّ هذه ظاهرة تكرّرت من قبل في ديكتاتوريّات كثيرة، لكن أن تستمرّ غيبوبة شعب بأكمله أكثر من ستّين عامًا، فهذا شيء مثير للعجب والاستغراب. قرأتُ في كتاب "قرننا هذا" لمستشار ألمانيا الأسبق هيلموت شميدت والمؤرّخ الأمريكيّ فريتس شترن ملاحظة مهمّة عن ظاهرة غياب وعي الشّعوب المقهورة.

فقد ذكر هيلموت شميدت أنّ غالبيّة الألمان كانوا لا يعرفون أنّهم يعيشون تحت حكم ديكتاتوريّ عسكريّ في الحقبة الّتي سبقت وصول هتلر إلى الحكم. وأتذكّر أيضًا أنّ توفيق الحكيم قد نشر كتابه "عودة الوعي" في عصر السّادات، مشيرًا إلى أنّه كان بلا وعي أثناء فترة الحكم النّاصريّ، قبل أن يستردّ وعيه في عصر السّادات. ولو صحّ هذا الكلام، لكان ينبغي على توفيق الحكيم أن يدرك مثالب الحكم العسكري الّذي استمرّ أيضًا أثناء حكم السّادات. لكنّه لم يفعل. ولا عجب في ذلك.

فإرهاب الدّولة البوليسيّة الّتي أسّسها العسكر في مصر كان يجعل أيّ كاتب مصريّ يفكّر مئات المرّات، قبل توجيه أيّ نقد لهذا الحكم القمعي الإجرامي الوحشيّ. وهو ما نتج عنه طمس الحقائق، ونشر الأضاليل. وبعد.

كثيرًا ما أتأمّل نموذجي أسبانيا وألمانيا في العصر الحديث بالذّات. فألمانيا، لمن لا يعرف، قد سبقت أسبانيا في عصرنا هذا بأكثر من قرنين من الزّمان – علميًّا وتكنولوجيًّا وثقافيًّا وصناعيًّا وفكريًّا وتعليميًّا وحضاريًّا. والسّبب الرّئيسيّ عندي هو معاناة الشّعب الأسبانيّ الطّويلة تحت الحكم العسكريّ الدّيكتاتوريّ بقيادة فرانكو سنوات طويلة. يقينًا معاناة الشّعب الأسبانيّ أقدم من ذلك بكثير، حيث مارس الكاثوليك القهر والقمع ضدّ الأسبان المسلمين واليهود، وخيّروهم بين التّنصير والقتل.

ديكتاتوريّة فرانكو دمّرت الشّخصيّة الأسبانيّة بصورة شبه كاملة، وأصابت العقل الأسبانيّ الجماعيّ بما يشبه الضّمور. سنة واحدة من حكم فرانكو الدّيكتاتوريّ العسكريّ أخّرت أسبانيا ما يُقارب قرنًا من الزّمان إلى الوراءِ. الدّيكتاتوريّة تسلب الإنسان حرّيّته، وتحرمه من حقوقه، وتهدر كرامته، وتقتل روح المبادرة فيه، وتغتال قواه الإبداعيّة. ونظرًا لأنيّ أقضي شهورًا طويلة في أسبانيا كلّ سنة، فقد لاحظت عن كثب بعض ما أصاب الشّخصيّة الأسبانيّة، والعقل الأسبانيّ، من تفكّك، وضمور، وضعف، وانحلال.

يؤلمني مثلًا أن أرى هذا الشّعب الأسبانيّ الطّيّب وقد صار يعتمد اعتمادًا شبه كلّيّ على السّياحة كمصدر أساسيّ لدخله. أعرف قرى بأكملها في جنوب أسبانيا لا يشتغل أحد من سكّانها إلّا في السّياحة. الصّناعة، والتّعليم، والتّكنولوجيا، والثّقافة، لا تحظى بما تستحقّ من اهتمام الأسبان. أتألّم عندما ألمس تدهور مستوى تعليم الأسبان. إلمام المواطن الأسبانيّ العاديّ باللّغات الأجنبيّة ضعيف جدًّا. أتذكّر مثلًا أنّني سألت موظّفًا في فندق خمس نجوم في ساحل النّور – كوستا دي لا لوتس – في غرب أسبانيا، إن كان يتحدّث الإنجليزيّة. فردّ قائلًا: "لا. الأسبانيّة فقط" (سولو إسبانيول)!!

وأدّت هذه الأوضاع العامّة المتردية للأسبان إلى شعورهم بالضّعف، والنّقص، والتّخلّف، تجاه معظم شعوب أوروبّا الأخرى. فالإنجليز مثلًا عندما يزورون أسبانيا يتصرّفون وكأنّهم هم الأسياد والأسبان هم العبيد. تطوّرات مؤسّفة حقًّا في تاريخ أسبانيا. أتذكّر أنّني كنتُ أقضي عطلتي في فندق أسبانيّ عريق على ساحل الشّمس – كوستا ديل سول – قبل عدّة سنوات. فحدث أنّ سكنت راقصة في الغرفة الّتي تعلو غرفتي.

فلمّا اشتكيت لموظّف الاستقبال من ضوضاء الكعب العالي الّذي ترتديه هذه الرّاقصة، لم يجرؤ على مطالبتها بالكفّ عن إزعاج سيّاح الفندق. بل سارع يعرّض عليّ الانتقال إلى غرفة أخرى، قائلًا: "سأعطيك أفضل جناح في الفندق". فلمّا انتقلت إلى ذلك الجناح، اكتشفت انبعاث روائح كريهة منه صادرة عن مواسير الصّرف الصّحّيّ. فاستنكفت هذا السّلوك، وذهبت أشكو موظّفي الاستقبال مرّة أخرى. لكنّي قابلت في الطّريق سائحة إنجليزيّة اكتشفت العيب نفسه. فقالت لي: "سوف ألقّن الأسبان درسًا لن ينسوه"!! ولا عجب في ذلك.

فالإنجليز يمارسون ما يشبه الاحتلال لأسبانيا، لأنّهم أقوى من الأسبان اقتصاديًّا، وعسكريًّا، وصناعيًّا، وتعليميًّا، وفكريًّا، وثقافيًّا. لاحظت أيضًا الازدراء الشّديد الّذي يكنّه كثير من الأوروبيّين المقيمين في أسبانيا للأسبان. أتذكّر أنّني التقيت سائحًا إنجليزيًّا كان يقيم في الفندق الّذي كنت أقيم فيه في الأندلس. فكنّا نلتقي معًا في مطعم الفندق ونتبادل أطراف الحديث. وذات يوم اشتكي لي ممّا يلقاه من معاملة غير ودّيّة من قبل موظّفي الفندق. فلمّا نصحته بأهمّيّة إعطائهم ما ينتظرونه من بقشيش، استشاط غضبًا، وردّ قائلا: "هؤلاء الخدم لن يحصلوا منّي على سنت واحد. عليهم أن يؤدّوا عملهم كما ينبغي بدون أيّ بقشيش"!! يقينًا يحدث في مصر أكثر من هذا، من حيث إذلال المواطن المصريّ، في مقابل احترام السّائح الأجنبيّ. لكنّ السّبب واحد، وهو الضّعف، وغياب الكرامة، وعقدة النّقص. وبعد.

مقارنة سريعة يمكنها أن توضّح للقارئ الكريم ما أقصده من تقدّم ألمانيا وتأخّر أسبانيا. فالألمان صاروا بفضل قوّة اقتصادهم "أبطال العالم" في الإنفاق على رحلاتهم الخارجيّة، في حين أنّ معظم الأسبان لا يسافرون خارج أسبانيا. يستطيع القارئ الكريم إلقاء نظرة سريعة على إحصائيّات "منظمة السّياحة العالميّة" ليرى أنّ أسبانيا تعتبر من أكثر دول العالم استقبالًا للسّيّاح، لكنّ شعبها من أقلّ دول العالم سفرًا وإنفاقًا على رحلاته الخارجيّة. ينفق الألمان أكثر من خمسين مليار يورو سنويًّا على رحلاتهم الخارجيّة. وهذا مجرّد جانب واحد من جوانب تقدّم ألمانيا، وتأخّر أسبانيا، ناهيك عن تخلّف مصر. وبعد.

نموذج أسبانيا وألمانيا مذهل حقًّا. فالألمان صاروا أصحاب أقوى اقتصاد في القارّة الأوروبيّة برمّتها. حقّق الشّعب الألمانيّ معجزة حقيقيّة بعد هزيمة الحرب العالميّة الثّانية. فرض احترامه على جميع دول العالم. وكلّما تأمّلت ما حقّقه هذا الشّعب العملاق من إنجازات، ازددتُ إعجابًا به واحترامًا له. فبعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية ظهرت في ألمانيا نخبة حقيقيّة، وليست حثالات وضيعة، مثلما ابتلانا اللّه في مصر. اجتهدت هذه النّخبة المحترمة في وضع أسس متينة للحكم الدّيمقراطيّ. أثبتت الأيّام أنّ نظام الحكم الألمانيّ هو الأفضل في العالم. لماذا؟

لأنّه يقوم على توزيع السّلطات، وليس تجميعها في يد ديكتاتور واحد. النّظام الفيدرالي أو الاتّحاديّ الألمانيّ يقوم على منح المقاطعات، والولايات، والمدن، والقرى الألمانيّة قدرًا من الحكم الذّاتيّ، والاستقلال النّسبيّ عن الحكومة الاتّحاديّة. الأحزاب الحقيقيّة – وليس الكارتونيّة مثل أحزاب البرادعي، وموسى، والوفد، والتّجمّع، والإنقاذ – ممثّلة في جميع أنحاء ألمانيا.

تجرى الانتخابات بمستويات مختلفة على المستوى الاتّحادي، ومستوى الولايات، والمدن، والقرى. في كلّ مدينة وولاية تقوم الأحزاب الفائزة في الانتخابات بتشكيل حكومات تكون مسؤولة عن اقتصاد هذه المدينة أو الولاية، وزراعتها، وصناعتها وأمنها، وتعليمها، وثقافتها. أمّا الدّفاع والأمن القوميّ والسّياسة الخارجيّة، فهي من مسؤوليّات الحكومة الاتّحاديّة. نظام الحكم هذا أفضل آلاف المرّات من أنظمة الحكم البالية الّتي نتبعها في مصر منذ انقلاب سنة ١٩٥٢م. فعندما يكون الحكم ديمقراطيّا برلمانيّا اتّحاديّا بصورة حقيقيّة، يتراجع الفساد، وتقلّ البيروقراطيّة، وتصبح مصلحة المواطن هي الشّغل الشّاغل للجميع. وبعد.

ولتتأمّل معي، أيّها القارئ الكريم، الفارق الهائل بين نظامي الحكم في مصر وألمانيا (أو سويسرا). فكلّ مدينة ألمانيّة لديها حكومة خاصّة، تسمّى في النّظام السّويسريّ "مجلس المدينة". وكلّ ولاية ألمانيّة، أو كانتون سويسريّ، لديها حكومة خاصّة بها. وتشكّل هذه الحكومة الأحزاب الّتي تفوز في الانتخابات. وتتكوّن كلّ حكومة من وزراء حقيقيّين يعملون ليل نهار من أجل تطوير: زراعات ولايتهم، أو محافظتهم، وصناعاتها، وتعليمها، وتجارتها، وفنونها، وأمنها، ومرافقها.

هذا هو ما أقصده من توزيع السّلطات. في مقابل هذا نجد في مصرنا عكس ذلك تمامًا. فمحافظة "الوادي الجديد" مثلًا الّتي يُقال إنّ مساحتها تبلغ نحو ٤٤٪ من مساحة مصر يقوم عسكريّ من عسكر مصر بتسيير شؤونها. عسكري واحد يحكم ٤٤٪ من مساحة مصر!! فلا تستغربن، أيّها القارئ الكريم، عندما ترى الفارق الهائل بين اقتصاد مصر شبه المنهار واقتصاد ألمانيا الّذي يعتبر الأقوى أوروبيّا. وبعد.

اعتمد مجرمو عسكر مصر على دجّالين، من أمثال المدعو محمّد حسنين هيكل أكبر منظّر للدّيكتاتوريّة العسكريّة المصريّة منذ انقلاب ١٩٥٢م وحتّى كتابة هذه السّطور. فقد قرأتُ مؤخرًا عن إعجاب وزير الدّفاع المصريّ الخائن السّيسي به. ويقالُ إنّ هيكل قد ساهم في وضع مخطّط انقلاب ٢٠١٣م. ولا عجب. فالعسكر يمجدّون من يتملقهم، ويمتدحهم، ويتقرّب منهم. ولا يطيقون سماع أيّ نقد أو عتاب. وموقفهم هذا يذكّرني بالمثل الألمانيّ الشّهير القائل بأن الإنسان يفضّل مدحًا يهلكه عن نقدٍ يُصلحه. وبعد.

حصاد حكم العسكر في مصر مرير جدًّا. أيّ إنسان مصريّ شريف يتألّم عندما يتأمّل الدّمار الشّامل الّذي حلّ بمصرنا بسبب حكم العسكر. صرنا شعبًا فقيرًا جدًّا، برغم ثرواتنا. وأصبحنا شعبًا مريضًا جدًّا، برغم إمكانيّاتنا. وتقهقرنا قرونًا إلى الوراء، برغم حضارتنا العريقة. هل يعقل أن تصل نسبة الأمّيّة في مصر إلى أكثر من أربعين في المئة؟ وهل يعقل أن يعيش أكثر من نصف الشّعب المصريّ تحت خطّ الفقر؟ مصّ ساويرس وعصابته دماء النّاس، حتّى أصبح نصف الشّعب المصريّ يعيش تحت خطّ الفقر.

الدّيكتاتوريّة العسكريّة خلقت نظامًا مدمّرًا سمح لممثّلة مثل يسرا بالحصول على الملايين، لأنّها تساهم في تخدير النّاس، مقابل ملايين من المصريّين يسكنون المقابر والعشوائيّات. أخبرني شابّ مصريّ مؤخرًا أنّ إحدى شركات السّياحة المصريّة تعرض الحصول على تأشيرة أوروبيّة مقابل خمسين ألف جنيه مصريّ!! غالبيّة شباب مصر صار يحلم بالفرار من حجيم العسكر إلى جنّة أوروبّا. أكثر من عشرة في المئة من المصريّين يعانون من أمراض الكبد المهلكة. وملايين أخرى تعاني من السّكّر. وأعداد غفيرة تعاني من السّرطانات النّاتجة عن مسرطنات يوسف والي وعصابته.

قائمة الأمراض الّتي أصابت المصريّين طويلة. والسّبب الأساسيّ هو الحكم العسكريّ الإجراميّ لمصر. متوسط دخل الفرد في ألمانيا الّتي شقّت طريقها قبل انقلاب ١٩٥٢م بنحو سبع سنوات فقط يبلغ اليوم حوالي ثلاثة وأربعين ألف يورو سنويًّا. في حين لا يتعدّى متوسّط دخل الفرد في مصر ألفي يورو سنويًّا. أيّ مواطن ألمانيّ يستطيع السّفر إلى أيّ دولة في العالم لقضاء عطلته السّنويّة في أفخم فنادق العالم، بسهولة ويسر.

في حين المواطن المصريّ العاديّ لا تسمح له ظروفه المزرية ولو حتّى بقضاء حاجاته الأساسيّة اليوميّة، فكيف له أن يفكّر في السّفر إلى أوروبّا للسّياحة؟ قضاء أسبوع واحد في فندق محترم في أوروبّا يتكلّف ما لا يقلّ عن ألف يورو. فمن أين يأتي المواطن المصريّ البسيط بألف يورو، بعدما أهلكه العسكر إملاقًا، ومرضًا، وجهلًا؟ أيّها النّاس، لا مستقبل لمصرنا بدون دحر مجرمي عسكر مصر، وتطهير مصر من سرطاناتهم. عار علينا أن نسكت على هذه الجرائم الوحشيّة في حقّ بلد طاهر كبلدنا العظيم. ولسوف تُصيبنا لعنة الأبناء والأحفاد، إن لم نتضامن جميعًا لتطهير مصر عن بكرة أبيها من جهالات عسكر مصر وجشعهم وأضاليلهم وأكاذيبهم.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023