شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

كيف تشوِّه السلطوية قيمة المؤسسية؟ـ د.سيف عبد الفتاح

كيف تشوِّه السلطوية قيمة المؤسسية؟ـ د.سيف عبد الفتاح
من الأهمية بمكان أن نتعلم ذلك الدرس المهم ونتوقف عنده حينما نتبصر في السنوات الثلاث التي مرت بعد ثورة يناير...
من الأهمية بمكان أن نتعلم ذلك الدرس المهم ونتوقف عنده حينما نتبصر في السنوات الثلاث التي مرت بعد ثورة يناير المصرية،
 
ونجعل من تلك السنوات معملاً لخبرة التاريخ نقتنص منه الخبرة في مواضع الفكرة ومكامن العبرة، ونتعرف على قيمة المؤسسية الكبرى وكيف كانت هذه المراحل الانتقالية بحق تستحق عنوانًا مهمًا مفاده "كيف تهدم أو تشوِّه أو تزيف قيمة المؤسسية في المجتمع السياسي، وصناعة الصورة السلبية حولها؟"، وإذا ما تأملنا كيف أن هذه المرحلة الانتقالية قد شهدت مؤسسات موجودة شوهت أدوارها، وطمست أهدافها، وزيفت وظائفها، وتورطت في أدوار بديلة قضت على قيمة المؤسسية فيها، وعلى معاني الفعالية المرتبطة بها، ذلك أن الأمر ارتبط ـ وبشكل دراماتيكي ـ بمؤسسة مثل "المؤسسة العسكرية" تصدرت المشهد السياسي، برزت بشكل مستتر ثم تحولت إلى الشكل "الفج" لتشكل قاطرة للسلطات الأخرى أو المؤسسات بحيث تلحق بها، وتسير في ركابها، وتعمل في خدمتها، فإذا افترض البعض أن مؤسسة لم تلتحق بقطار المؤسسة العسكرية فإنها بذلك تكتب شهادة انزوائها وربما وفاتها.
 
 
 
في كل دولة سلطات ومؤسسات، ويخلط كثير من الناس بين ماهية هذه وتلك، وبين أدوارها ووظائفها، الأمر الذي يوقعنا في الكثير من المشكلات والأزمات، ويقلب كيان الدولة رأسًا على عقب، إذا تحولت المؤسسات إلى سلطات، أو العكس؛ فالسلطات تمثل التعبير الذي نطلقه على ثلاث جهات فقط في الدولة: التشريعية (البرلمان)، والتنفيذية (الرئاسة والحكومة)، والسلطة القضائية (المحاكم وما في حكمها). وهذه السلطات مناطها أن لها "دورًا سياسيًا"، وأنها تحكم، وتجتهد وتدبر وتقدر وتقرر، ومن ثم فهي تمثل أركان دولاب الدولة، أما المؤسسات فهي كيانات مهنية وظيفية، تساعد في التنفيذ والتطبيق، ولا تلعب دورًا سياسيًا بالأساس، ولا تمثل سلطات تقديرية، ولا تتخطى حدود السياسات والتشريعات والأحكام والقرارات التي تصدرها وتقررها السلطات؛ وهذا لا يقلل من شأنها ودورها، فهي عجلات تدوير وتسيير دولاب عمل الدولة ومحركاته.
 
 
 
ومن ثم فإن تحويل المؤسسات إلى سلطات يمثل مشكلة كبرى وخطرًا فادحًا؛ حين يتحول "المهني" إلى "سياسي" أو "حالة سياسية"، وتفتئت على ما فوقها من سلطات، وتنشغل عما أنيط بها من مهام ومسئوليات، وهذا ما يؤدي إلى "انقلاب" في الأدوار والصلاحيات، وهو ما حدث في مصر في أكثر من مشهد، تقدمت المؤسسة العسكرية المشهد السياسي منذ فبراير 2011م ومارست هذا الدور بشكل مستتر حتى وصلت إلى الذروة في الثالث من يوليو؛ حيث تحولت بشكل مستفحل ومتغول من "مؤسسة" – كما هي في كل بلاد الله- إلى "سلطة"؛ والأصل أن الأجهزة والمؤسسات الأمنية ليست سلطات، مؤسسات القوة على وجه الخصوص لا تحكم ولا تتحكم ولا ينبغي لها أن تكون سلطات تمارس دورًا سياسيًا يحيل المجال العام والسياسي إلى محمية عسكرية ومعسكر تتفاعل فيه القوى السياسية المدنية تحت ظلال السيوف وتهديد السلاح. 
 
 
 
وباتت المؤسسة العسكرية اليوم تشكل من نفسها قاطرة تقطر وراءها كافة المؤسسات والسلطات الأخرى، وتجعل منها "مؤسسات وسلطات مقطورة ومجرورة ومقهورة"، سواء كانت مؤسسات وسلطات معينة أو منتخبة، مستقلة أو تابعة بحكم طبيعتها، وبالنسبة للمؤسسات المعينة فأمرها سهل وقريب: فالمُعين قابليته للتبعية أكبر بحكم طبيعته، وعمليات توظيفه واستغلاله (نظرية الأذرع)، الإشكال يقع في تعامل العسكر مع المؤسسات المنتخبة وعلى رأسها: السلطة التشريعية (البرلمان). ومن هنا نفهم ونسترجع هذا الحرص البالغ من المجلس العسكري على الاستحواذ عليها أو على بعض من وظائفها، وتلاعبه بقانون الانتخابات البرلمانية، ثم استدعائه المحكمة الدستورية والقضاء الإداري لحل أول برلمان منتخب انتخابًا حرًا، ثم سعيه الحثيث لإسقاط الجمعية التأسيسية المختارة من البرلمان. وكذلك نفهم ونسترجع الكيد الكبير ضد "الرئيس المدني المنتخب"، ونفهم ونسترجع كلام "السيسي" عن مشكلة المجلس المنتخب واحتمالات أن يقوم باستجواب المؤسسة العسكرية، وحمله هم هذا الأمر!!
 
 
 
ومن ثم ليس أمام السلطات المنتخبة أو المستقلة إلا أن تخضع وتتبع: إن طوعًا أو كرهًا، وفي حالة تشكيلها اعتراضًا على هذا النهج، فلابد من تشويهها وإغراقها بالأزمات، وتوريطها في مواقف محرجة تهز صورتها، ويعرضها للحل والتفكيك بواحد من طريقين: إما الطريق القانوني (مستخدمًا السلطة القضائية)، وإما بالطريق الإكراهي (الانقلاب والإرهاب الأمني!!). ولقد استفاد العسكر من فساد وفشل أكثر مؤسسات الدولة ووقوعها تحت هيمنة الشخصنة والشللية الفاسدة والضعيفة التي لا تتفق مع أدوارها. العودة مرة أخرى لمؤسسات "كأن" الشكلية والديكورية، وبهذا انفردت المؤسسة العسكرية، إضعافًا وتشويهًا للمؤسسات الأخرى إضافة إلى تحصينها من كل طريق باعتبارها المؤسسة الأكثر انضباطًا وتماسكًا ومؤسسية، مؤسسة، فسلطة، فنظام، فدولة، فدولة فوق الدولة.
 
 
 
هذه هي قصة مؤسساتنا وسلطات الدولة المصرية، لا تحدثني عن فشل أو إفشال، فهذه حقيقة قابعة في بنية الدولة المصرية، ترعاها وتحميها الدولة العميقة، وقد جاءت ثورة 25 يناير لتهزها قليلاً وتعرضها للتغيير، لكن الدولة العميقة وعسكرها تعمل اليوم ومن خلال مشروع الدستور المطروح للاستفتاء والذي قال عنه الحكيم البشري "إن القوات المسلحة قد اكتسبت فى هذا المشروع المطروح استقلالا يكاد يكون كاملا عن مؤسسات الدولة الأخرى" وهكذا فإن الأمر بذلك إنما يشير إلى ألا تكون المؤسسة العسكرية مؤسسة في الدولة لكنها تعد دولة فوق الدولة، وهو طريق يمكن أن يكرس لعسكرة الدولة والمجتمع، ويفتح بابًا أمام الانقلابات العسكرية كوسيلة لانتقال السلطة وهو ما يهدد المستقبل السياسي لمصر ويجعل أمر المؤسسات المعينة المتورطة في أعمالها والمشوهة في أدوارها المحاصرة في حقائق فاعلياتها، وكذا أمر المؤسسات المنتخبة التي يطولها الحل أو الإلغاء أو تقليص الصلاحيات في المراقبة والمتابعة والمحاسبة من كل طريق بما يهدد وينقض المسار الديمقراطي في جوهره وبنيانه.
 
إن تحويل السلطات إلى حالة مؤسسية أمر مطلوب ومرغوب وإيجابي في فاعلية الحياة السياسية لكن تحويل المؤسسات إلى سلطات أمر شديد الخطورة، حينما يخرجها من طبيعتها الوظيفية والمهنية إلى مساحات السياسية، خاصة عندما تكون من مؤسسات القوة الحامية للأمن القومي، مثل المؤسسة العسكرية لأنها بذلك تستبدل قوتها في مواجهة العدو لتوظيفها سياسيًا في مواجهات أخرى لا تحمد عقباها، فيكون دورها الجديد علامة على فاشية عسكرية ودول قمعية، ومن هنا لا خروج من ذلك المأزق إلا أن تُكتب صفحة جديدة واضحة عاقلة في كتاب العلاقات المدنية العسكرية.
 


تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023