لقد كنت ساذجًا، نعم، كنتُ ساذجًا في أولى أيام اعتقالي حين ظننتُ أن العالم سينتفض للدفاع عني وعن زملائي وعن حرية الصحافة التي اتّسعت في مصر بعد الثورة.. ظننتُ أن كل تلك المؤسسات الصحفية والحقوقية وقادة الرأي الذي يتغنون ليلًا ونهارًا بحرية الرأي والتعبير كقيمة ومبدأ، سيبذلون ما بوسعهم للوقوف في وجه الانتهاكات الصارخة التي تمارس ضد الصحفيين في مصر..
وإنني -ولكوني اعتُقلت بسبب ممارستي لمهنتي في الصحافة- لن أمكث كثيرًا في تلك الزنزانة، أو على الأقل سأجد من يُعنى بقضيتي أنا وزملائي؛ لكنني نسيتُ حينها واقعَ أن هذا العالم لا يذكر المبادئ كثيرًا بقدر ذِكرٍه للمصالح والانحيازات والسياسة.. هذا العالم سيذكر الصحفيين الأجانب، وسيذكر مَن يعمل في مؤسسة إعلامية كبرى تضغط للتذكير به على شاشاتها وبمواردها المختلفة، سينتفض لسجنهم وينقل أخبارهم ويضغط للإفراج عنهم، ثم يحتفل بخروجهم ويُنهي المعركة ناسيًا أو متجاهلًا أن ثمّة أكثر من 20 صحفيًّا مصريًّا من مختلف المؤسسات الإعلامية يمكثون خلف القضبان، واليوم يُحكم على 13 منّا بالسجن المؤبد (أنا من ضمنهم)، وعلى أحدنا بالإعدام.
كانت تهمتي التي أُدِنتُ بها هي نشر أخبار كاذبة والعمل على تشويه سمعة مصر بالخارج، وكان الحكم عليّ هو السجن المؤبد؛ وذلك برغم أن المحكمة لم تقدّم نموذجًا واحدًا لخبر كاذب كدليل إدانة (إذا افترضنا أن تهمة كهذه تستحق حُكمًا كهذا!)، وحرمتني حتى من حقي في التحدث أمام القاضي؛ بل ومن التواجد في المحكمة لسماع حكمي بنفسي.
منذ الانقلاب العسكري أصبحت حرية الإعلام في مصر تعني الحرية في إعداد حلقات “توك شو” تمجّد النظام، أو الحرية في فبركة خبرٍ عن اختراع علمي يبيع الوهم للناس، أو نشر بضعة أخبار لتشويه معارضيه من مختلف الاتجاهات، أو الحرية في الاستهانة بصحة المواطن بترويج أخبار تفيد مثلًا بأن غرق سفينة فوسفات حمولتها 500 طن في النيل سيحسّن نوعية مياهه وستبقى صالحة لشرب ملايين المصريين منها مباشرة، ويا للسخرية فإن تلك الحريّة لم تَسعني، واتهمتُ ومن معي من الصحفيين بالسعي لإثارة الفوضى وتشويه صورة بلدنا “مصر”؛ لمجرد أننا نقلنا الصورة كما هي لا كما يودّ النظام أن ينقلها للعالم، نقلتُ الحدث بوجهة نظر محايدة لا بوجهة نظر الحاكم العسكري فكانت عقوبتي السجن المؤبد.
ممارستي لمهنتي في الصحافة جعلتني أتنقّل بين 4 سجون؛ حيثُ عُذّبتُ وضُرٍبت وجُرِّدت من ملابسي وحُرٍمت من أية رعاية طبية، ومن إكمال دراستي، ومن إدخال الكثير من متعلقاتي الشخصية الضرورية والكتب وغيرها، حُرمت من وجه أمي ومن خطبة الفتاة التي تمنيت، ومن التخطيط لحياتي، أو لنقل أنني حُرمتُ من حياتي؛ فحياةٌ بلا حرية ليست حياة، سُجنتُ لأني نقلتُ الجريمة ولا يزال القاتل حرًّا طليقًا!
في بلادي ثمة مَن يرى أن الحظ كان حليفي لأنني حُكِم عليّ بالمؤبد لا الإعدام؛ كزميلي الذي سيُعدم عقوبةً له على نفس التهمة التي وُجّهت لي (وهو الكاتب الصحفي وليد شلبي)، أو يرون أنني محظوظ لأني لا أزال أتنفس -وإن كان داخل زنزانة كقبر- ولم يتم اغتيالي خلال عملي الصحفي مثلما حصل مع تسع زملاء إعلاميين آخرين قُتلوا برصاص قوات الداخلية في مصر منذ الانقلاب، وهم: أحمد عاصم، وحبيبة عبدالعزيز (التي كنت معها قبل رحيلها بدقائق)، ومصعب الشامي (زميلي في شبكة رصد) وأحمد عبدالجواد، ومايك دين (المصور البريطاني المنسي لأسباب أجهلها والذي كان يعمل بقناة “سكاي نيوز”)، ومحمد سمير، وتامر عبدالرؤوف، ومصطفى الدوح، وميادة اشرف (التي كانت تعمل بجريدة “الدستور”).. عليهم جميعًا وعلى الصحافة الحرة رحمة الله.
ضحكتُ بشدّة حين رأيت صور وزير الخارجية المصري يتظاهر في باريس مع قادة العالم من أجل حرية التعبير بعد أحداث شارل إيبيدو، وتساءلتُ: هل سأله أحدٌ هناك عن عدد الصحفيين الذين قُتلوا في عهده؟ أو عن عدد الصحفيين المسجونين خلف القضبان وهو يتظاهر باسم حريّتهم؟ كيف ستصبح ملامح وجهه لو أن أحدهم وجّه إليه سؤالًا كهذا؟، لكن يبدو أن الكيل بمكيالين لم يكن مستبعدًا في هذا الموقف أيضًا ولم يكترث كثيرون لهذا التناقض الصارخ، ولكلٍ أسبابه.
في الحقيقة؛ وبرغم كوني لا أنكر أني أمرّ بأصعب مراحل حياتي؛ إلا أنني لم أندم طيلة سجني ولو للحظة على عملي كصحفي، وحتى بعد أن حُكِمَ عليّ بالسجن المؤبد، وإنني لأفخر بكوني قد شاركت في تأسيس عدد من المواقع الإخبارية كرصد وغيرها، وشاركتُ في نشر ثقافة المواطن الصحفي بين شباب مصر، فهي الضمانة الوحيدة لمواجهة السيطرة والهيمنة على الإعلام الذي يُسيّره الساسة ورجال الأعمال، وإن كتب الله لي الخروج فسأعود وفي جعبتي أكثر من خمسة مشاريع إعلامية ضخمة لتنفيذها.
إن حبي لوطني وإيماني العميق بحق هذا الشعب في حياة أفضل وأكرم يجعلاني أكثر إصرارًا يومًا بعد يوم على اعتناق حرية الرأي والإعلام كهدف ومسعى؛ فبدونها نخسر الكثير من فرص تلاقح الأفكار وتطويرها؛ عدا نقل الأخبار وتسليط الضوء على الفاسد أو المجرم ليعلم أن شعبًا يراقبه ولن يسمح له بالمساس بحقه وكرامته ونواحي حياته، ومتى ما وُجِدت حرية الإعلام ستوجد الشعوب الواعية.
هي كلماتٌ وخواطر أكتبها بمناسبة مرور اليوم العالمي لحرية الصحافة للمرة الثانية وأنا خلف القضبان، فهل يا ترى سأرى النور قبل مرور هذا اليوم عليّ للمرة الخامسة والعشرين وأنا في زنزانتي هذه وقد بلغتُ من العمر الخمسين؟!
الصحفي المعتقل والمحكوم عليه بالمؤبد د/ عبدالله الفخراني
سجن طرة