لعلّ أكبر كارثة يرد فيها معارضو الانقلاب على أحكام الإعدام الجائرة في مصر، هي الغرق الذي شهدناه خلال اليومين الماضيين في تفاصيل قضية “عرب شركس”، بطريقة أولاً غير علمية، لا تنمّ عن قراءة واعية لمحاضر الاتهام. وثانياً تنزع جريمة الإعدام عن سياقها، بأنّ دولة عسكرية تتخذ من القضاء سلاحا لتثبيت حكمها.
والصحيح أن التعامل الحقوقي والإعلامي يجب أن يركز على حقيقة تفسخ منظومة القضاء، ونقض أركانها ومنهجيتها ودوافعها، لا الانشغال بمناقشة تفاصيل مخرجاتها، وذلك عبر التأكيد على المضامين التالية:
١. إعدام شباب “عرب شركس” (و غيرها من أحكام قد تنفذ لاحقاً) هي حلقة من سلسلة تضم أكثر من ١٧٠٧ قرار إعدام صدر منذ الانقلاب، لم يتم الطعن سوى في ٢٣٠ حالة منها.
٢. النظام بعد الانقلاب بدأ يحتل المركز الثاني عالمياً في إصدار أحكام الإعدام بعد نيجيريا، باصدار حكم إعدام كل ١٤ ساعة!
٣. توضيح أن السواد الأعظم من محكومي الإعدام منتمين أو محسوبين بصورة أو أخرى على مؤسسات التيار الذي وقع عليه الانقلاب، ما يعني أنها أحكام سياسية، لا كما يريد النظام تصويرها على أنها “ضد الإرهاب” عبر تصدير قضية “عرب شركس” وربط متهميها بأنصار بيت المقدس (فرع من داعش).
٤. التركيز على بطلان تصنيف رموز نظام مرسي ومنتسبي الإخوان بالإرهاب، باستحضار أن فريق مرسي وجماعة الإخوان غير مصنّفان بالإرهاب لا في الأمم المتحدة ولا الولايات المتحدة ولا أوروبا، كما أن الضغط السياسي وضخ الأموال الخليجية عجزت طوال عامين عن انتزاع موقف بريطاني يجرّم الإخوان، مما يعني أن استهدافهم هو إجراء سياسي كيدي.
٥. القانون المصري والميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام ١٩٩٧، الملزم لمصر، ينص في مادته رقم ١١ على أنه “لا يجوز فى جميع الأحوال الحكم بعقوبة الإعدام فى جريمة سياسية”.
٦. الجمعية العامة للأمم المتحدة دعت بأغلبية عريضة في قرار صدر في ديسمبر ٢٠١٤، إلى إلغاء العمل بعقوبة الإعدام، وهو الشيء المتحقق رسمياً أو عبر حالة De facto في ١٤٠ دولة حول العالم.
٧. أن لا تقف جماعة الإخوان ضد إلغاء عقوبة الإعدام بحجة أنها ضد الشريعة الاسلامية، كما فعلت الجماعة بمصر في أوج تغوّل قضاء الانقلاب صيف ٢٠١٤، فضرورة الواقع تحتّم عليهم الآن أن ينخرطوا في الحراك العالمي المناهض لعقوبة الإعدام، وكسب أصوات المناهضين لها حول العالم، لا سيما في أوروبا وفي أروقة الأمم المتحدة.
ما كان كارثياً خلال الفترة الماضية، هو الغرق بتفنيد تفاصيل جنائية متعلقة بقضية “عرب شركس” بصورة تخدم الانقلاب، وذلك من خلال الانصراف عن جوهر المسألة، وهو أن القضاء المصري مسيّس وأحكامه ساقطة وفق القانون الدولي، نحو الانتقال إلى مناقشة تفاصيل الحكم بصورة تعكس التسليم بسلامة القضاء، وطرح أفكار بدائية يسهل تفنيدها قانونياً، ورفع شعارات غير صحيحة تقول أن الحكم مخالف للقانون المصري. بينما المحاضر الكيدية التي جُهزت للقضية تجعل الحكم سليماً أمام القانون المحلي.
هذا الفشل بالتعامل مع الملف، يخدم الانقلاب من خلال جعل هدفه يمرّ بنجاح، وهو تحضير الرأي العام والمناخ الدولي تدريجياً لتقبل إعدامات ستطال مستقبلاً قيادات من الاخوان والمعارضة السياسية ورموز حقبة الرئيس محمد مرسي، قد لا تستثني مرسي نفسه.
أكاد أجزم أن المردّدين لعبارة أن المعتقلين تم احتجازهم قبل واقعة “عرب شركس” لم يقرؤوا محضر الاتهام الصادر ضد المتهمين، ولو فعلوا لعرفوا أنها حجة يمكن تفنيدها من قبل مؤيدي الانقلاب، فالمحضر يسند لهم جرائم أخرى قديمة، إلى جانب الانتماء لكيان “إرهابي” وهو بالمناسبة ما أكّده بيان ”أنصار بيت المقدس” الذي تبنى قتلى اقتحام مخزن “عرب شركس” ومعتقليه.
اليوم على معارضي الانقلاب أن يختاروا بين التموضع في خانة من يراهم العالم مدافعين عن “إرهابيين مؤيديين لداعش- بصرف النظر عن براءتهم”، عن طريق ترديد كليشيه سهل بأنهم معتقلين قبل الحادثة، وبين من ينطلق من موقف مبدئي مناهض لسلب الحياة البشرية تحت أي سبب كان في عالم يزخر بالفوضى والصراعات، فضلاً عن الاستخدام السافر لسلاح الاعدام كأداة سياسية.
أما من يرى في الاحتكام إلى مبادئ القانون الدولي تفريط بالحقوق ومضيعة للوقت، فمن المهم الإشارة إلى أن هذا المسار -وحده- لن يُسقط الانقلاب ويعيد الديموقراطية في مصر، لكنّه قطعاً سيساعد في تخفيف جرائم الانقلاب ورفع بعض من قيوده المسلطة على رقاب الناس.
كما أنه من العبث التعويل على الدول الصديقة ومطالبتها بالوقوف إلى جانب الشعب المصري (قطر وتركيا مثالا)، بينما لا تقوم المركبات السياسية المعارضة بإعطاء هذه الدول أسباباً لاستمرار الدعم، وأقلّها التشويش على صورة الإنقلاب دولياً. وبما أن القاعدة البسيطة تقول بأنك لن تحصل على الدعم إلا لو كنت قوياً، وبما أن الإخوان والمعارضة يفتقدون لجميع أسباب القوة المادية، فعليهم إذن السعي المستميت لتحصيل أسباب القوة الأخلاقية والقانونية، وإلا فلن يرحمهم الناس ولا كاتبو التاريخ.