يجادل بعضهم بأن الثورات لا تنجح إلا باستخدام العنف، وأن مواجهة الأنظمة القمعية والسلطوية لا يكون إلا باللجوء إلى السلاح وفرض الأمر الواقع عليها.
ويستحضر هؤلاء تجارب كان فيها العنف الثوري أداة رئيسية لتحقيق التغيير المنشود، مثلما حدث فى جنوب إفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا، أو كما حدث في الثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو الذي شن حرب عصابات على ديكتاتورية لفولجنسو باتيستا، أو مثلما حدث في الثورة الإيرانية التي لجأت إلى قدر من العنف في الاحتجاج على نظام الشاه.
حقيقة الأمر، لا يوجد نمط تفسيري واحد لمدى ارتباط العنف بنجاح الثورة من عدمه. كما أن العلاقة بين الأمرين ليست بالضرورة ارتباطية أو طردية، وإنما تختلف باختلاف السياقات والظروف لكل حالة على حدة، وذلك بحسب آراء باحثين ودارسين كثيرين متخصصين فى تاريخ الثورات، كما أن الأمر يتعلق بدرجة العنف ونطاقه، ومدى تحمل المجتمع لتكلفته.
وليس بالضرورة أن يكون العنف السياسي من أشكال الثورة أو الحراك الثوري، وإنما قد يكون نتيجة صراع على السلطة أو الرغبة في السيطرة. لذا، يصبح من الوهم أن يتم تصوير كل عمل عنيف باعتباره فى مصلحة الثورة، أو قد يؤدي إلى تحقيق نتائجها على المدى الطويل.
بل على العكس، اللجوء للعنف، خصوصاً بوجود مساحات وأدوات أخرى للتغيير، قد يصبح بمثابة “قبلة الموت” للثورات، وقد رأينا كيف ساهم العنف إلى نتائج كارثية على الدول والمجتمعات والأفراد في أكثر من بلد عربي خلال الأعوام الماضية.
صحيح أن كلفة القمع والعنف السلطوي قد تكون كبيرة، لكن الصحيح أيضاً أن الدخول في حرب ومواجهة مفتوحة بين الأنظمة القمعية والسلطوية من جهة، والرافضين لها ولوجودها من جهة أخرى، لن يؤدي، بالضرورة، إلى إنجاح الثورات أو تحقيق التغيير الذي ينادي به الثوار.
وهو ما يبدو واضحاً فى الحالتين، الليبية والسورية. فقد كان لجوء الثوار الليبيين إلى السلاح واحتكامهم إليه في مرحلة ما بعد القذافي، وفشلهم في التوصل إلى أجندة توافقية، سبباً أساسياً في فشل الثورة في تحقيق أهدافها، بل ونفور كثيرين منها. وهو ما حدث، بشكل أساسي، فى الحالة السورية التي تحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية، حتي قبل أن يتم التخلص من الديكتاتور.
وتبدو أوهام العنف الثوري واضحة، عندما يعتقد بعضهم بأن المجتمع سوف ينتفض في وقت “ما”، ويقرّر الانضمام إلى الثوار من أجل التخلص من الحكومات السلطوية، بعد أن تصل إلى مرحلة من الفشل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي التي لا يمكن السكوت عليها.
وهو ما يعكس سذاجة “ثورية” وسياسية، حيث لا يدرك هؤلاء أن الحسابات السياسية لكل فئة مجتمعية قد تخلتف بشكل كبير عن حسابات الثوار ومنطقهم. فالطلب على الحرية والتخلص من القمع قد لا يتساوى لدى قطاعات بعينها، مع طلب أمور أخرى، كالاستقرار والحصول على وظيفة أو استمرار الوضع كما هو عليه. لذا، ليس غريباً أن يتندر بعضهم على هؤلاء بأن يوصفهم بـ”حزب الكنبة”، لكنهم في الحقيقة لديهم حسابات ورؤية أخرى لمصالحهم وكيفية تحقيقها.
بكلمات أخرى، ثمة فارق كبير بين “تسليح الثورة” و”تثوير المجتمع” وتعبئته ضد القمع والفساد والسلطوية، ولعل منطق العنف مقابل الاستقرار هو أحد الأدوات التي استخدمتها الثورة المضادة في المنطقة، من أجل إجهاض الربيع العربي.
فالطلب على الاستقرار وعودة الحياة لطبيعتها كان، ولا يزال، مطلباً أساسياً لقطاعات واسعة من الجماهير العربية التي ربما ترغب في التغيير، لكنها ليست مستعدة لدفع الثمن.