منذ أن أطاحت أجهزة الدولة القمعية المباركية العميقة في مصر في 3 يوليو 2013 بثورة 25 يناير 2011، وهي متلبسة بالخوف، ليس باعتباره صناعة رائجة تهدف إلى خلق أنظمة عبودية قسرية أو طوعية فحسب، وإنما حالة مرضية باتت ملازمة للانقلاب، فقد كانت عملية إعادة بناء جدار الخوف الذي تهشم عقب ثورة يناير مكلفة بحيث أصابت الجهاز العصبي للدولة البوليسية القمعية ذاتها.
ومع حلول الذكرى الخامسة لثورة يناير، تضاعفت مستويات الخوف والرهاب لدى النظام، حيث كثّفت الأجهزة الأمنية من تدابيرها الاحترازية، وقامت بحملة اعتقالات واسعة لمعارضي الانقلاب، إلا أن حالة القلق والعصاب التي تستولي على الذهنية العسكرية البوليسية، لا تزال عاجزة عن فهم التحولات في تكتيكات مناهضة الانقلاب، فهي تصر على منع التظاهرات والاحتجاجات السلمية باعتبارها فعاليات نضالية خطرة، ولم تعد قادرة على إدراك التحولات العميقة لفئات وجماعات أصبحت السلمية مرحلة عفى عليها الزمن وأخذت بالانتقال من سلم التمرد إلى العنف الثوري فالجهاد.
لا يبدو أن الذكرى الخامسة لثورة يناير ستشهد انتفاضات شعبية لافتة، لكن ذلك ينبغي أن يقلق السلطة البوليسية القمعية، فالحالة المصرية تختلف عن نظيرتها التونسية التي لم تشهد انقلابا صريحا، فحركتها الاحتجاجية طبيعية لتصحيح مسار الثورة في سياق إنجاز عملية انتقالية ديمقراطية، فهي تتوافر على مطالبات لا تكتفي بالحرية، وتسعى إلى دمجها بالعدالة والكرامة.
أما الحالة المصرية، فهي على وشك حسم خياراتها على نحو أشد راديكالية، فما بعد ذكرى يناير سوف تواجه مصر خيارات تمردية دموية متدرجة من العنف الثوري إلى الجهادية، ولا جدال بأن الموجة الجديدة من العنف في مصر لن تكون مثل سابقتها إبان حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بحيث ستكون الجهادية المصرية الجديدة أكثر خطرا، وأشد فتكا، وأوسع انتشارا.
لا تزال العقلية الأمنية للانقلاب تصر على تبني سياسة استئصالية لقوى ثورة يناير، وهي تستخدم خطابات مكافحة الإرهاب لردع التمرد، دون الأخذ بتكتيكاته من خلال توظيف الجماعات الأقل تطرفا في مواجهة الأشد راديكالية، فهي تعتقد بأن وصم جماعة الإخوان المسلمين بالإرهاب والتمسك بتصنيف الجماعة حركة إرهابية منذ ديسمبر 2013، سوف يرهب الأطراف المتمردة كافة، لكن الرهان على ذلك كان ممكنا جزئيا في حال أنجز النظام عملية انتقال ديمقراطي، في سياق عمليات إدماج تقوم على مبدأ الاعتدال، وخلق تيار إسلام ما بعد سياسي، قادر على خلق سسيولوجيا أمل تنزع فتيل التطرف.
على الرغم من عمليات القتل الممنهج، والاعتقال المقنن، لقيادات الإخوان، إلا أن الجماعة كانت لا تزال متمسكة بنهجها السلمي، لكن ذلك لم يدفع نظام الانقلاب إلى عملية مراجعة، وقد دفعت غطرسة القوة المؤسسة الأمنية والعسكرية إلى الاعتقاد بأنها قادرة على حفظ الأمن وتوفير الاستقرار، ولم تتنبه المؤسسة المتكلسة إلى أن موقف الإخوان من موضوعة السلمية ونزع الشرعية عن العنف هو من منع دخول مصر في حالة من العنف والفوضى الشاملة، مع تنامي وجود حركات جهادية ذات توجهات مختلفة.
توشك جماعة الإخوان المسلمين تحت حكم السيسي، في الذكرى الخامسة لثورة يناير على حسم خياراتها، كما فعلت سابقا في عهد عبد الناصر، ولكن في ظروف مغايرة، ففي الوقت الذي كانت الجماعة تهيمن فيه على الحالة الإسلامية زمن عبد الناصر، فإن الإخوان في زمن السيسي أحد اللاعبين، فالمشهد الإسلامي في مصر يتوافر على مجموعة من المنافسين.
وإذا كانت القيادات الخارجية الكهلة متمسكة بالخيار السلمي، فقد نفد صبر القيادات الشابة في الداخل، وقد أفضت النقاشات الحادة على مدى سنتين داخل الإخوان إلى بروز تيارين إخوانيين على طرفي نقيض، أحدهما يتبنّى تكتيكات تصادمية ثورية عنيفة، والآخر يراهن على مبدأ اللاعنف.
مع تنامي الإحباط واليأس بالتغيير والمضي قدما في عمليات القمع والتنكيل بالحركة الإسلامية في مصر، بات الجيل الشاب أكثر راديكالية، ومسألة تحول الشباب الإخواني إلى مقاربة أكثر ثورية لم تعد متخيلة، الأمر الذي سوف يخلق بيئة شعبية أكثر قبولا وتاييدا للعنف والإيديولوجية الجهادية.
وإذا كانت عمليات الانتقام من النظام أخذت أشكالا تنظيمية بدائية بعد الانقلاب، أمثال حركة “مولوتوف” وحركة “وَلَّعْ” وحركة “مجهولين”، وحركة “إعدام”، و”كتائب حلوان”، وغيرها من الحركات التي لم يكن لها أي تأثير فعال سوى خلق بعض الفوضى، وشيْ من الانتقام من رجال الشرطة والبلطجية وعمليات إشعال النار في سيارات الشرطة.
فقد أخذت الحالة الثورية الإسلامية مسارات نحو هياكل تنظيمية أكثر ثباتا ووضوحا، وتعدّ جماعة “العقاب الثوري” مثالا على التطور الاحترافية، وقد أعلنت عن وجودها في يناير 2015، تزامنا مع الذكرى الرابعة لثورة يناير، باعتبارها امتدادا شرعيا للثورة.
وتمكنت الجماعة منذ تأسيسها من تنفيذ أكثر من 170 هجوما في ست عشرة محافظة، كما برزت في الوقت ذاته حركة “المقاومة الشعبية”، وتظهر طبيعة الأشرطة والأناشيد المرافقة للبيانات والخطابات لجماعة العقاب الثوري تشابها مع أسلوب كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.
ولا تقتصر التحولات نحو الراديكالية على الشباب الإخواني، فقد ظهرت حركات ثورية سلفية أمثال “حركة أحرار”، التي برزت عام 2012.
باتت خيارات الشباب في جماعة الإخوان المسلمين أكثر راديكالية، فالبيانات التي تصدر عن الشباب على شبكة الانترنت أصبحت أكثر عنفا على صعيد الخطاب، فقد استخدم المتحدث باسم الشباب الذي عيّنته الجماعة عام 2015، ويستخدم الاسم المستعار محمد منتصر، لغة ثورية راديكالية، ودعا في أحد التصريحات إلى “ثورة تجتزّ الرؤوس من فوق أجساد عفنة”، كما ظهرت بيانات لمجموعة من علماء الشريعة الأقرب إلى الإخوان تدعو إلى مقاومة النظام بكافة الوسائل، حيث وقّع 159 العلماء بيانا بعنوان “نداء الكنانة”، خلصوا فيه إلى وجوب مقاومة النظام المصري، باعتباره عدوّا للإسلام، والعمل على “القضاء عليه بكل الوسائل المشروعة”.
وقد أيّدت جماعة الإخوان هذا البيان، وفي هذا السياق ظهرت مجموعة من الكتب والدراسات الشرعية المؤيدة للعمل العنيف ضد النظام، ومن أهمها كتاب بعنوان “فقه المقاومة الشعبية للانقلاب”، ونشرته هيئة شرعية متحالفة مع جماعة الإخوان المسلمين أوائل عام 2015، ويؤيّده الفصيل الثوري في الجماعة.
تبدو خيارات الإسلاميين الراديكالية الثورية متنوعة في الذكرى الخامسة لثورة يناير، فهي تتوافر على توجهات فكرية إيديولوجية عديدة من الإخوان إلى السلفية الحركية، فالجهادية بتنوعاتها التضامنية والنكائية والتمكينية.
ففي سياق التنافس والصراع على تمثيل الجهادية بين قاعدة الجهاد والدولة الإسلامية، ظهرت مجموعة من الحركات الجهادية المصرية التي تتماهى مع إيديولوجية القاعدة، وتعدّ جماعة “المرابطون” النسخة الأحدث نشأة، وقد ظهرت جماعة المرابطين بعد أن فشلت جماعات مماثلة بتأسيس فرع قاعدي، وتعرّضت للتفكك والانحلال بعد سلسلة من الضربات الأمنية، ومن أبرزها جماعة “أجناد مصر” التي ظهرت إلى العلن في 24 يناير 2014، وأصدرت بيانات عدة، تبنت من خلالهما تنفيذ سلسلة من العمليات العسكرية.
وقد ضعفت الجماعة، وتعرّضت للتشتت عقب مقتل زعيم ومؤسس التنظيم، مجد الدين المصري همام عطية، على يد قوات الأمن، وعلى الرغم من نعي التنظيم لقائده في 9 إبريل 2015، وتعيين قائد جديد وهو عز الدين المصري، خلفا لمجد الدين، وتنفيذ يعض العمليات، إلا أن التنظيم بات ظلا لما كان عليه.
جماعة “المرابطون” هي النسخة الجديدة للجهادية المصرية القاعدية، وقد أعلنت عن ظهورها من خلال شريط مصور بعنوان “ويومئذ يفرح المومنون”، نشرته الجماعة على شبكة الإنترنت في يوليو 2015.
وتضمن الشريط كلمة صوتية لقائدها أبو عمر المهاجر هشام علي عشماوي، أما جماعة “أنصار بيت المقدس” فقد ظهرت إلى العلن في فبراير 2011، وهي جماعة جهادية عالمية نفذت عمليات ضد مصر وإسرائيل عدة، وقد تحولت إيديولوجية الجماعة تدريجيا عقب الانقلاب العسكري من أولوية مواجهة العدو البعيد متمثلا بإسرائيل، إلى أولوية قتال العدو القريب ممثلا في الجيش المصري وأجهزة الأمن.
وبايعت الجماعة تنظيم الدولة الإسلامية وأميرها أبو بكر البغدادي في نوفمبر 2014، وباتت تعمل باسم ولاية سيناء.
هكذا، فإن مصر تكون قد دخلت عصر “الجهاد”، فالحواضن الشعبية باتت جاهزة لتوفير شبكات حماية وإسناد للخيارات الراديكالية، وهي تسير على خطى سوريا والعراق واليمن وليبيا، والجماعات الإسلامية بدأت تتنافس على استقطاب الثوريين الغاضبين، الذين تتدرج خياراتهم وتتدحرج باتجاه الجهادية المحلية والعالمية، فقد ساهمت عملية عزل ومحاصرة وإضعاف جماعة الإخوان المسلمين في مصر في بروز سردية إسلامية جهادية مصرية أشد صلابة، وأكثر تمسكا بحدود العلاقة الصراعية الوجودية مع النظام الانقلابي المصري.