يرجع المؤرخ والفيلسوف الكبير أرنولد توينبي، أن السبب الرئيس في إنصهار الهنود الحمر في أمريكا أمام المحتل الأجنبي، هو أنه لم يكون لهم طاقة الدينة قوية، فضعفت بذلك الروح المقاومة وإستسلموا إلى الفناء.
وهذه قراءة موافقة إلى حد بعيد، نجد مايدعموها إذا نحن استقرئنا تاريخ العالم الإسلامي، فأول عقبة وقفت في وجه الاستعمار كانت هي روح الإسلامية، نجدها في المغرب متجسدة في شخص عبد الكريم الخطابي متخدة من شعيرة الجهاد سلاحًا، وفي ليبيا في شخص الثائر عمر المختار، وفي الجزائر في الأمير عبد القادر، وفي مصر في شخص الشيخ حافظ سلامة، وفي فلسطين في المجاهد مؤسس العُصبة القسّامية، عزالدين القسام.
ومن تلك الروح الدينية ومبادئها، كانت إرهاصات النهضة الإسلامية مع مالك بن نبي والأفغاني ومحمد رشيد رضا والكواكبي وشريعاتي ومحمد عبده..
وتلك روح الدينية عندما تلبست بضع بدو في صحراء، انتصروا على العالم وأضاءت حضارتهم دنيا وظلت تجري فيهم جيل بعد جيل، لتأتي معها نهضة العصر الذهبي للإسلام المرحلة تاريخية التي كانت الحضارة الإسلامية فيها متقدمة، خلال هذه الفترة، قام مهندسو وعلماء وتجار العالم الإسلامي بالمساهمة بشكل كبير في حقول الفن، والزراعة والاقتصاد والصناعة والأدب والملاحة والفلسفة والعلوم والتكنولوجيا والفلك، من خلال المحافظة والبناء على المساهمات السابقة وبإضافة العديد من اختراعاتهم، فيما كانوا قبل البعثة يقتصر كل إنتاجهم في المعلقات السبع فقط.
يمكننا القول أنه كلما كانت تلك طاقة في حالة صعود كلما كانت الأمة تقترب من بناء حضارتها، وكلما كانت تلك الطاقة في حالة نزول كلما كانت الأمة تبتعيد من تشيد تلك الحضارة.
إلى أن هذا ليس هو العامل الوحيد رغم أنه أساسي، هناك عامل آخر مكمل للأول هو الاستبداد سياسي، كلما اجتمع العنصران مع بعض إلى وكان تخلف نتيجة، وكلما إرتفاع إلى وكانت النهضة حقيقة.
وهذا ما لحظه المستشرق توماس وولكر آرنولد حيث يقول عن سقوط الحضارة السابقة
لقد بلغ الاستبداد غايته في الدولة الرومانية، ووصلوا في التبذل إلى أحط الدركات.. بل أصبح الهم الوحيد اكتساب المال من أي وجه، ثم إنفاقه في الترف وإرضاء الشهوات. لقد ذابت أسس الفضيلة، وانهارت دعائم الأخلاق، حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية.
بقوله: «كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد كانوا حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف»
أما عن أسباب انهيار الحضارة الفرسية يقول، لقد كانت أساس الأخلاق متزعزعة مضطربة في تلك البلاد منذ عهد عريق في القدم، ولم تزل المحرمات النسبية التي تواضعت على حرمتها ومقتها طبائع أهل الأقاليم المعتدلة موضع خلاف ونقاش.
أما بخصوص تخلف العرب قبل البعثة المحمدية، يقول لقد كان شرب الخمر واسع الشيوع، شديد الرسوخ فيهم، يتحدث عن معاقرتها والاجتماع على شربها الشعراء، وقد شغلت جانبًا كبيرًا من شعرهم وتاريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكثر فيها التدقيق والتفصيل كثرة تدعو إلى العجب، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائمًا. كان الرجل يقامر على أهله وماله فيقعد حزينًا سلبيًا ينظر إلى ماله في يد غيره، فكانت تورث بينهم عداوة وبغضًا.
وكان أهل الحجاز، العرب واليهود، يتعاطون الربا، وكان فاشيًا فيهم، وكانوا يجحفون فيه ويبلغون إلى حد الغلو والقسوة.
واليوم لا يمكن أن ينكر أحدا، أن هذه الخصائص من سمات الحضارة الغربية، إن نحن ستثنينا الاستبداد سياسي وهذا العنصر هو الحائل دون سقوطها إضافة إلى تقدمها العلمي.
أما نحن فالاستبداد سياسي نتورثه كبيرا عن كبيرا، و جيلا بعد جيل، أو الأحرى يتورثنا، ونجد الآباء المؤسسين له من علماني صدر الأول مثل إبن المقفع، الذين ترجموا ثرات سياسي للحضارة الساسانية الذي كان عامل من عوامل انحطاط تلك الحضارة.
أما الروح دينية فقد تكفلت النخبة العلمانية الحديثة بستورد لنا من الخارج ما يقوض دعائمها ويضعف من رسوخها ويشويش عليها
ليس لأنهم يرون أنه مأتو به مفيد، فالمراهق عندما يعجز عن اكتساب مهارات لعيب كورة قدم محترف فهو يلجأ إلى تقليد توافه الأمور فيه، كالطريقة تسريح الشعر أو الوشم في يده، عندما لم تسمح لهم لياقتهم الفكرية وبناهم العقلية أن يجاروا الغرب في تقدمه العلمي قرروا بأن يحاكوه ولكن على طريقة خاصة بهم.
ومن طوام التي كانوا سابقين لها، هي تحالفهم التاريخي مع كل مستبد سياسي في كل الأزمان والأمصار، على حساب الشعوب المسلمة، وعندما هب صاحب سيادة إلى تصحيح المسار وإرجاع الأمور إلى نصابها، فإذا هم أول من وقف على ضد من هذه شعوب المسلمة، وإلتفوا على ثورات بالثورة مضادة لترسيخ الاستبداد سياسي والاستغفال الاجتماعي.
وهم اليوم كما في الأمس أوكسجين المستبد وعكاز الجهل في أغلب الدول العربية والإسلامية وهم اليوم كما الامس يرتزقون على الجهل وتفرقة واستغفال الناس واغتيال الحقيقة، يسمون الثورة خيانة والانحلال تحرر والعبودية حرية وخنوع وتبعية سياسة وهم السبب رئيس في إجهاض نهضتنا المنشودة.