هل كان أحمد أبو الغيط يمزح أم كان جادّاً، لما وجّه، أمس، أول أيامه أميناً عاماً لجامعة الدول العربية، أن تكون أعمال إصلاحاتٍ وصيانةٍ وترميمٍ ونظافةٍ وتجميلٍ في مبنى الجامعة ومكاتبها ومرافقها، طلب الإسراع بإنجازها، “على أعلى مستوىً من الكفاءة والحرفية، بما يتناسب مع اسم جامعة الدول العربية وقيمتها”؟ استهل عمله بجولةٍ على أقسام الجامعة، للتعرّف على الموظفين ومهماتهم، واجتمع مع أحد عشر أميناً مساعداً (!).
وأفادت وكالة أنباءٍ طيّرت الخبر، بأنه أعطى توجيهاته تلك، بعد أن أبدى ملاحظاتٍ على ما شاهد. ومن شأن خبرٍ مثل هذا أن يشيع سوء الظن بسلفه، نبيل العربي، من قبيل أنه كان مهملاً في وجوب أن يكون مبنى جامعة الدول العربية لائقاً “باسمها وقيمتها”، ما اضطر خليفته إلى الإسراع في تدارك هذا الحال. ويزيد من استهجان ذلك الإهمال المفترض أن العربي مُنح سبعة ملايين دولار مكافأةً على جهودِه في سنوات منصبه الخمس، اثنين بقرارٍ من مجلس الجامعة الوزاري، وخمسة مكافأة “نهاية خدمته”. ويتردّد أن دول مجلس التعاون ستضيف ملايين أخرى، هديّة منها إليه.
ولكن، قد يوحي خبرٌ مثل هذا، لا سيما إذا ما اقترن بأولى قرارات أبو الغيط، إجراء أعمال صيانةٍ ملحةٍ في مبنى الجامعة، بأن نبيل العربي، من فرط ما كان منقطعاً في ترميم الحال العربي وصيانته من الأنواء والأعداء، وفي إصلاحه من الأعطاب، غفل عما تحتاجه مرافق الجامعة من إصلاحاتٍ وأعمال نظافة.
ما هي، بالضبط، قيمة جامعة الدول العربية التي يتوهمها الأمين العام المستجدّ، ويلحّ على أن تليق بها نظافة مبنى الجامعة وأناقة مكاتبها؟ لا يسعفنا أرشيف الجامعة، منذ توقيع مصطفى النحاس باشا، وزملائه من بعض العرب، على ميثاق نشوئها، في 1945، بما يدلّل على هذه القيمة المتخيّلة. ففي أول حروب العرب مع أعدائهم بعد قيام الجامعة، حمّل القائد الفلسطيني، عبد القادر الحسيني، أمين عام الجامعة في تلك الغضون المسؤولية، بعد أن ترك جنوده، في أوج انتصاراتهم، من دون عونٍ أو سلاح. كان العدو آنذاك اسمه إسرائيل، وكان أولئك الجنود يقاتلون، في 1948، من أجل إنقاذ فلسطين من الاحتلال الأول.
أما أحدث حروب العرب الراهنة، فتتوزع في اليمن وسورية والعراق وليبيا والصومال، والأعداء وأشباحهم وأشباههم عديدون، ولا تندسّ إسرائيل بينهم، ولم نُصادف، في الأثناء، جهداً للجامعة المتحدّث عنها هنا من أجل وقف أيّ من هذه الحروب، الأهلية والحمد لله. وسيكون من الكوميديا أن يطلب واحدنا، حفظ الله عقول الجميع وحماها، دوراً لهذه الجامعة في أمرٍ كهذا.
كأن أحمد أبو الغيط يقيم منذ اليوم الأول لوظيفته، على همّةٍ لا تلين، وعلى عزيمة لا تفتر. كأن لسان حاله ينطق بأن ننتظر منه، ما إن يفرغ من تهيئة مبنى الجامعة بما يليقُ بها، أن يصل الليل بالنهار، وهو يسعى في ربوع العرب وحواضرهم، من أجل ترميم أوطانهم، وصيانتها من انفلات التصدّعات فيها، وتنظيفها من كل ما يعيق تقدمها إلى العزّ والسؤدد. كأنه يطلب، منا، نحن الرعايا العرب، أن نعينه في مهمته الجسورة هذه، وأن ندعو العلي القدير أن لا يضنّ عليه بأيٍّ من أسباب التوفيق، في سعيه المبارك، إلى أن يصير العرب في الموقع الذي يستحقونه بين أمم الأرض، موحّدين في دأبهم في نبذ كل جهل وتخلف وهوان، وفي تمتين أسباب المنعة ضد كل فرقةٍ وقسمة. سيحمل أبو الغيط بيارق العلا، ونمضي معه، وتحت عينه الساهرة، إلى حيث النجاح في كل ما نتطلع إليه من دحر كل احتلال، ومن تحقيق تنمية في كل حقل وشأن.
لا مدعاة للتطيّر وإشاعة اليأس بعد اليوم، فقاموس أحمد أبو الغيط لا يعرف هذه المفردات الدخيلة. سيعيد البوصلات التائهة إلى وجهاتها، فتكون إسرائيل عدواً أول وأخيراً، سترتعد فرائصُها، أياماً بعد أن يكتمل إصلاح مبنى جامعة الدول العربية وتنظيفه. سيتفرّغ لكسر أرجل عسكرها ومسؤوليها.. هي أيام فحسب، وسنرى أبو الغيط غضنفر هصوراً، وهذه قراراتُ يومه الأول أميناً عاماً تشهد على ما نثرثر ونمزح.