رغم كل النكبات التي منيت بها مصر التي تعيش أمل الحرية وشعبها الحالم بالعيش والكرامة ، إلا أنها لم تزل تعيش مخاض الثورة وتحمل لقبها.
انشقاقات الثورة بين التموضع عند الأيدلوجية وانتفاخ غير مبرر لكيانات هشة وشخوص بليدة أورثا ثورتنا الخسار في طلعتها الأولى.
التعجل في قطف الثمار والبحث عن المغانم واستحضار الثارات القديمة أفقدنا كل ما حققناه في يناير، ومنح العسكر والثورة المضادة التربة الخصبة للعب بالجميع وطردهم من الملعب وإعادة تخطيطه على جثة الثورة وأنين الوطن وجراح أبنائه وآلامهم.
جاء الانقلاب وركبت الثورة المضادة وسُلم الوطن ــ سلس القياد ــ لعبد الفتاح السيسي وطغمته من العسكر، وكان لهم فرصة دفن الثورة تماماً والقضاء المبرم على كل نُذِرها بل والفوز بالضربة القاضية على عمودها الفقرى وتيارها الأصيل.
بدت فرصة العسكر سانحة لتحقيق ذلك وأكثر لو استخدموا صلاحياتهم المطلقة واستغلوا سذاجة الجماهير المُضلَّلَة ولو استفادوا بكل الدعم الذي انهال عليهم من الشرق ومن الغرب.
ماذا لو قَدَّموا للشعب تَحسُّنا كان في مقدورهم في ظروف المعيشة؟!، أو منحوه توفيراً كان في المستطاع في الخدمات أو وفروه له أساسيات الحياة حتى المتواضع منها.
لو فعل ذلك عبد الفتاح السيسي لكسب الجولة كاملة ولهتفت الجماهير الساذجة بحياته، ولأصبح زعيماً وامتطى ظهر الوطن لعقود ووَرَّث مصر لطغمة الاستبداد لقرون قادمة.
لكنه لم يفعل !!.
ربما العجز العقلي والسطحية الفكرية كان السبب، وربما كانت استعجالة الداعمين الحقيقيين ــ الخارجيين ــ للثورة المضادة وشهوتهم وغرورهم هو مَن سَلَك بهم سبيل الإفشال والفساد والتردي.
ثمة حقيقة مستقرة أن طريق الدم والقتل والحرق ومنهجية الخيانة والغش والكذب لا يمكن أن تصل بأصحابها إلى استقرار أو تَمَكُّن، كما أن القانون الأزلي الراسخ أن الله لا يصلح عمل المفسدين.
وصلت الأمور إلى ما نحن فيه، حيث لا حدث تَمَكُن حقيقي للسيسي ولا استقرت الثورة المضادة ولا هُزمت ثورة يناير ولا انتهى الاسلاميون ولا أصبح الإخوان ذكرى وأثر.
أما شركاء أو فرقاء الثورة المصرية فقد ظلوا الحلقة الأضعف طوال الفترة الماضية بعد الإنقلاب وقبله، وربما حتى في أوج ثورة ينايرة وفي أيامها البيض الحِسان.
على كل حال بعد انقضاء ست سنوات من ثورة يناير وبعد ثلاث سنوات ونصف من عمر الإنقلاب يمكننا القول بمنتهى الاطمئنان أن الثورة في مصر مازالت حية وأن أسبابها مازالت قوية وحظوظها لم تزل وفيرة.
لكن يمكننا القول بأريحية كاملة أن كل تأخير في نُصرة الثورة وهزيمة الانقلاب إنما يعود بكل أسف إلى نخبة الثورة ورموزها وسلوك قياداتها الركيك الردئ.
ولا يُعد غلواً ولا تجاوزاً ولا مبالغة إن قُلنا أن المعتوه عبد الفتاح السيسي هو النصير الأول لثورتنا الحالية وأن طغمته الغبية من العسكر وأزلامهم هم من حافظوا على حيوية الثورة ولازالوا هم مَنْ يشعلون الحطب حفاظاً على جذوة الثورة والتهاب الوضع.
الواقع يشهد أننا وصلنا بالفعل إلى ظرف استثنائي قد يكون فارق في عمر الثورة، حيث ارتفاع في الأسعار لا يتحمله الشعب المسكين، وانهيار في الخدمات يكاد يفتك بالجماهير الفقيرة، وبطالة تتغول يوم بعد يوم، وتردى مُهلِك أودى بالطبقة الوسطى واستدرج كثير من أغنياء الماضي إلى خطوط الفقر والعوز.
الشاهد أن أتون من الغضب المكتوم تبيت فيه الجماهير وتستيقظ عليه. وكابوس الحاضر يعصف بأي هواجس محتملة عن مستقبل لا يطمئنوا إليه ولا يتنظروه.
على الجانب الآخر نجح السيسي بغبائه وعناده وهطله في تفجير نخبته وتفكيك منظومة انقلابه وخسارة معظم شركاءه وحوارييه.
في هذه اللحظة الفارقة التي تهتف بالجد والعمل ننظر في خريطة فرقاء الثورة فنبصر فريقين لا ثالث لهم :
فريق من الأحرار الأطهار ذاهلين عن الواقع مغيبين عن الأحداث يعيشون مفردات مشكلاتهم الخاصة وحواراتهم الداخلية في لغوٍ صاخب ولغط مُثير، وهؤلاء تراهم سكارى وما هم بسكارى لكن غياب أثرهم في الواقع أكيد ومشهود.
فريق آخر يقظ ومترقب وجاد لكنه تنكب الطريق إذ لا يُبصر طريقاً للثورة إلا انتظار كل الفضلات التي يلقيها السيسي وإنقلابه، يستعطف كل من سقط من قراصنة 30 يونيو ليدعم بهم موقفه ويجمعهم في قاربه، ويحشدهم في اصطفاف يبشر به ويعول عليه باعتباره عصا موسي لنجاح الثورة وكسر الانقلاب.
لا جرم في مصطلح الاصطفاف ولا كراهة له ولا تحريم، لكن تساؤل مشروع ونقاش هادئ مع هؤلاء: هل هو اصطفاف مبادئ أم حشد أسماء وألقاب؟!.
لاشك أن الأسماء والألقاب تفيد في مسار الثورات شريطة أن تكون زعامات لها وزنها وتأثيرها في السلطة أو الشارع، أما أن تكون مجرد يافطات وكرافتات اشتهرت بمداخلات في الإعلام، فما قيمتها حينئذ وما الإضافة التي تقدمها للثورة؟!.
وهل فعلاً اصطفاف مثل هؤلاء يخصم من الإنقلاب؟!.
ولو علم السيسي فيهم خيراً لأمسكهم!!..
النقطة الأهم : على أي المبادئ يمكن أن نجتمع نحن وهؤلاء؟!.
لست أدَّعي احتكار الثورية ولا الديمقراطية ولا غيرهما، لكنه أسئلة مستحقة علينا أن نصارح بها أنفسنا وفاءً لثورتنا وحتى لا نكرر أخطاءنا.
دعونا من الاستقطاب حول الشرعية على وجاهته..
هل يمكن أن نستسلم “جميعاً” بحق وأمانة لديمقراطية الصندوق؟!..
هل يمكن أن نطمئن لهؤلاء من معاودة استدعاء العسكر؟!..
هل لهؤلاء مبدأ ثابت ضد الديكتاتورية والاستبداد؟!..
أم فقدوا موقعهم فيهما فقفزوا إدعاءً للحرية؟!..
لا أحد يدَّعي أن انتصار الثورة مضمون أو وشيك، ولإن كان الانقلاب يترنح فذلك لكونه جزء من وطن كامل يترنح وينهار.
لكن نقول بثقة أن الظروف مواتية لنجاح الثورة وإنقاذ الوطن بشرط أن تُفيق نخبة الثورة من التيه والسذاجة والكسل.
أية ذلك أن نبحث جميعاً في آليات المواجهة ووسائل كسر الإنقلاب بدلاً من تكوين والاستثمار في غثائية لن يفرح بها الوطن ولن تغني عنا في ميدان الثورة شيئ!!