في إحدى مناطق محافظة الإسكندرية، وبالتحديد داخل منطقة خورشيد القبلية، تجدهم يفترشون الأرض، وخيامهم تنتشر فى المكان، غُرباء عن أهل القرية، يبيتون ليلتلهم هكذا فليس لهم مآوى في تلك المنطقة إلا هذه الخيام، والتي لم يأتوا إليها إلا من أجل لقمة العيش، يبدو عليهم الحزن والآسى، يتوزعون بين الخيام التي افترشوها، وكل منهم منهمك فى عمله، بينما الزوجات منهن من تجلس بأولادها، وأخريات يتنقلن بين بيوت أهل القرية لجمع الأواني.
وإذا سألت "مَن هؤلاء؟" يرد عليك أهالى المنطقة بأنهم "نحّاسون متجولون" جاءوا منذ أيام قليلة ليزاولوا مهنتهم فى إصلاح الأواني، ثم ليرحلوا بعدها.
اقتربت شبكة رصد من تلك الخيام، لتراقبهم عن كثب، وترصد أوضاعهم المعيشية، وأصول مهنتهم وتطوراتها، وأبرز المشكلات التي تواجههم.
أبًّا عن جد
وبسؤال أحدهم قال سامي فتحي عباس، أحد النحاسين الموجودين بالمنطقة،"مهنتى نحاس متجول، اتنقل بين المناطق الفقيرة المختلفة، مع أسرتي، لاعيد اصلاح أواني الألومنيوم، وقد ورثت تلك المهنة أبًا عن جد"، حيث كانا جده ووالده أحد النحّاسين الذين اشتغلا بتلك الصناعة، منذ القدم وقت أن كانت الأوانى النحاسية تملأ البيوت، وقبل أن تنتقل إلى الألومنيوم والأستل ستيل.
ويؤكد "فتحي" أن عائلته بأكملها تمارس هذه المهنة، وتسمى عائلة "الشوام"، وهى من "دسوق" بمحافظة البحيرة، لافتًا إلى أنه لم يأت في منطقة خورشيد القبلية إلا فرع واحد من العائلة، بينما تتوزع باقى فروع العائلة فى محافظات البحيرة، ودمياط، وغيرها من محافظات الوجه البحري، بحثًا عن لقمة العيش في القرى المختلفة.
وأشار "فتحي" إلى أن الزوجات عليهنّّ دور كبير في تلك المهنة، حيث يتنقلنّ بين بيوت أهالي القرية لجمع الأوانى التي يريد أصحابها إصلاحها، مشيدًا بدور زوجته في تلك الأمر وأنه لن يستطيع التنقل ومزوالة المهنة بدونها.
نحّاس عفى عليه الزمن
وبانتقالنا إلى خيمة أخرى في المنطقة التقينا بعلي محمد، وهو شيخ عجوز طاعن في السن يجلس بمفرده، وينتمي إلى نفس العائلة، حكى لنا تطور المهنة، فقال: "كانت المهنة فى بادئ الأمر ومنذ زمن لإصلاح النحاس وطلاؤه، حيث كان العديد من السيدات يحرصنَّ على اقتناء الأوانى النحاسية، على اعتبار أنها شئ له قيمته في البيت المصري، إلا أنه مع مرور الزمن اندثرت تلك الأواني النحاسية وتناسى معظم المصريون النحاس وقيمته بعد أن أصبح غالي الثمن، فحلت محله أواني الألومنيوم والاستانل ستيل.
ويتابع "عم على" قائلًا: وحوّل العديد من النحاسون مهنتم إلى تلك الأواني تماشيًا مع استخدامات المصريون، وأنا كنت أحد هؤلاء الذين اضطروا إلى تغيير مهنتهم بعد اندثار النحاس، فاتجهت إلى أوانى الألومنيوم بعد أن أصبحت أكثر اقتناءًا لدى غالبية الشعب المصري، وأصبحت نحّاسا متجولا.
ويعود "علي" ليؤكد أنه على الرغم من اندثار النحاس وأوانيه، إلا أنه لايزال هناك العديدون من النحاسون الذين لم يفقدوا الأمل وأصروا على التمسك بالنحاس واصلاح أوانيه، وستجدهم فى حى يسمى بالنحاسين بمنطقة الجمالية بمحافظة القاهرة".
واشار "علي" إلى أن هؤلاء يرون أن النحاس لازال موجود فى العديد من البيوت، حيث أصبح فى بعضها جزءًا أصيلًا من ديكورات المنزل، في حين يقتنيه آخرون كمشغولات نحاسية.
وأضاف قائلًا: "وهؤلاء النحاسون لازالوا يتابعون تطورات المهنة ويهتمون بها، ويقومون بتدريب العديد من الشباب عليها حتى لا تندثر المهنة".
البحث عن استقرار
وبداخل إحدى الخيام- والتي يبدو عليها مظاهر الفقر المدقع- بدأ سليمان جابر- والدموع تكاد تتجمد في مقلتيه- يسرد مشكلات هذه المهنة، فيقول: "لأن عملي نحّاس متجول، أظل طيلة حياتي هكذا اتجول، لست بمفردي، ولكن معي زوجتى وأولادي، فلا نعود إلى بيوتنا إلا في المواسم والأعياد فقط، وماعدا ذلك فالخيام التي ننصبها فى القرى التي نأتى إليها مسكننا".
ويكمل "جابر" مأساته فيقول أنه تواجد مع أولاده وزجته منذ أسبوع في تلك المنطقة، وإلى الآن لا يعرف كم من الوقت سيقضيه، حيث تختلف المدة بحسب كم العمل الذي يُعرض عليه، فقد يستمر إلى شهر وقد تزيد المدة أو تنقصح- حسب قوله.
وينعي حظه فيقول: "أما النحّاسون الغير متجولون، فهم أسعد حظًا منا، فهم ينعمون بالاستقرار، بينما نحن لا نذهب إلا إلى المناطق الفقيرة فى الحضر أو القرى، لنبدأ رحلة العمل، والبحث بين أصحاب تلك القرية عن آوانيهم،
و عن تعليم الأولاد يقول "فتحي": "هيتعلموا ازاى طالما مفيش استقرار، ومقدرش اسيبهم فى البيت مع والدتهم، مين هيساعدني وقتها ويجمع الأوانى، غير والدتهم اللى بعتمد عليها فى الموضوع ده ".
وضع قاسي بعد الثورة
ولم تمر الثورة على هؤلاء مرور الكرام، فقد كان لهم نصيب كبير من التغيير الذي طرأ على عملهم، ومصدر دخلهم، حيث أشار "جابر" إلى أن الدخل المادي بعد الثورة أصبح ضعيفًا، بعد أن قلت نسبة الأقبال عليهم وعلى عملهم.
وعند سؤاله عن السبب في ذلك، أوضح أن انتشار ظاهرة البلطجة أدت إلى ازدياد الخوف لدى الأهالي، وتسببت فى طردنا فى العديد من المناطق التي نذهب إليها.
واستطرد قائلًا: "واحنا مش هينفع نقعد فى مكان الناس رفضناه فيه فبناخدها من أصريها وبنلم حاجتنا ونروح ندور على مكان تاني".
حلم بعيد المنال
وبين سرد المشكلات التي تواجه "النحّاسين"، ظهر بريق أمل في عين "جابر"، والذى أعرب عن أمله فى ايجاد فرصة عمل تمنح له الاستقرار، حيث تمنى أن يمتلك الآف الجنيهات التي تسمح له بشراء سيارة وبعض أوانى الالومونيوم، ويتجه إلى مهنة البيع، مشيرًا إلى وجود العديد من
من النحاسين المتجولين الذين حولوا مهنتم إلى البيع، وتمكنوا من الاستقرار فى مسكنهم، واستطاعوا التغلب على مشكلات أولادهم من اهمال التعليم وغيره، بعد ان حصلوا على مبلغ من المال ساعده على ذلك.