في الحلقة السابقة من هذه السلسلة بدأنا بتساؤل عن ماهية "الدولة" و استعرضنا التعريف الأشهر لها الذي صاغه عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر) ثم تناولنا بالشرح مجموعة من المفاهيم المستخلصة من التعريف و هي: الإقليم, الشعب, السيادة, القوة و الشرعية.
وصلنا لأن ظهور شكل الدولة القومية أمر حديث و لذلك فتسمى أيضاً بالدولة الحديثة و قبل وقت قريب كانت أشكال أخرى من التنظيمات السياسية هي السائدة كالامبراطوريات. وخلال القرن العشرين أصبحت الدولة الحديثة هي الشكل السائد لتنظيم المجتمعات البشرية.
وإذا كانت الدولة كما ذكرنا هي التنظيم السياسي لمجتمع عبر مجموعة من المؤسسات التي تنظم إدارة إقليم محدد وتسعى لاحتكار القوة فيه وحمايته من الاعتداء الخارجي أو الاضطراب الداخلي. والأصل أن الدول نابعة من المجتمعات لرعاية مصالحها وتحقيق الأهداف التي يتم التوافق عليها وأهمها مقاييس العدل والحرية والمساواة. قد يحدث الشقاق المجتمعي عندما ينعدم الاتفاق على هذه الأهداف في المجتمع أو تتصادم رؤى المجتمع والدولة.
ولأن الدولة تتكون من عدد من الطبقات, فإن أهداف الدولة تختلف بحسب اتساع الطبقات التي تحاول خدمتها, فمثلا في بعض الدول تهتم الدولة بتحسين معيشة المواطنين وإيجاد فرص عمل لهم ومنحهم تعليماً جيداً وضمان ظروف صحية جيدة للمواطنين بينما تتركز أهداف بعض الدول الأخرى في خدمة طبقة واحدة والحفاظ على مكتسباتها ويكون هدفها مثلا هو الحفاظ على الأموال غير الشرعية لتلك الطبقة في البنوك السويسرية أو ضمان سيطرة تلك الطبقة حتى لو عن طريق قتل الآلاف من الأبرياء.
مصطلح آخر يتم استخدامه في التنظيم السياسي هو (النظام Regime).
والنظام هو مجموعة القواعد والقوانين الأساسية لسياسة المجتمع, فهو يجسد الخطط والخطوط العامة فيما يخص مقدار الحرية في المجتمع والحريات الفردية والمساواة واختيار طرق استخدام القوة وتنظيمها ومن يدير استخدامها.
و بشكل عام جداً يمكن تقسيم الأنظمة لأنظمة ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية. في الأنظمة الديمقراطية يشكل مشاركة الشعب في وضع السياسات العامة وفي الحكم واحد من أهم القواعد السياسية للدولة, كما تعلو قيمة الحريات والحقوق الشخصية والمساواة بين جميع الطبقات.
على العكس من ذلك في الأنظمة غير الديمقراطية, فإن سياسات الدولة تحددها مصالح من في السلطة. وتقل أو حتى تنعدم مشاركة الشعب في رسم السياسات.
و تختلف الأنظمة حتى داخل التقسيم السابق بمقدار مركزية السلطة والعلاقة بين الحريات الفردية والعامة, فالنظام الديمقراطي في الولايات المتحدة مختلف عن مثيله في كندا مثلا, كما يختلف النظام غير الديمقراطي في الصين عن مثيله في سوريا أو كوبا.
وقد يصل الاستئثار بالسلطة في طبقة واحدة أن ينسب النظام كله لفرد واحد بيده مقاليد الحكم كلها, كما عبر الملك الفرنسي (لويس الرابع عشر) حين قال " أنا الدولة l’etat, c’est moi".
ويخلط البعض بين مفهومي الدولة والنظام, ويمكن تبسيط الأمر كالتالي, لو مثلنا الدولة على أنها جهاز الكمبيوتر الخاص بك, فإن النظام يكون هو نظام التشغيل أو البرامج التي تحدد استخداماتك للجهاز (الدولة).
وبينما يصعب تغيير الدول, وقد تستمر بعضها لعدة قرون بدون أي تغيير, فإن تغيير الأنظمة يكون أسهل نوعاً وإن كان استبدال الأنظمة ينتج عن تغيرات حادة في المجتمع كثورة تستبدل الطبقة الحاكمة بطبقة أو عدة طبقات أخرى. فمعظم الثورات تستهدف تغيير الأنظمة الحاكمة وليس الدولة, فتقوم باستبدال النظام الحاكم ومعه مجموعة القواعد والقيم السياسية الأساسية.
و مثال على ذلك فرنسا التي بدأ تاريخ الدولة الحديثة فيها بعد قيام الثورة الفرنسية في 1789 حينما أصدرت الجمعية الوطنية الفرنسية إعلاناً في أغسطس ينظم حقوق الإنسان والمواطنة في الدولة الفرنسية. ومن وقتها تغيرت الأنظمة الحاكمة في فرنسا عدة مرات حتى وصلنا اليوم للجمهورية الخامسة في فرنسا. وكل جمهورية من تلك الجمهوريات كانت تمثل نظام حكم مختلف ولها دستور وقواعد سياسية تميزها عن باقي الجمهوريات في فرنسا.
المفهوم الثالث في إدارة التنظيمات السياسية هو الحكومة Government. والحكومة هي القيادة العليا أو النخبة التي تقود الدولة وتشمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
ويمكن تصورها من خلال المثال السابق فلو كانت الدولة هي جهاز الكمبيوتر والنظام هو البرامج فيمكن تصور الحكومة بأنها المشغل operator.
و الحكومة قد تتكون من رئيس أو رئيس وزراء منتخبين من الشعب أو قد تكون نخبة اغتصبت الحكم بالقوة. وكل حكومة لديها تصور لمقدار الحريات والمساواة والمشاركة الشعبية في السياسات العامة، وتحاول استخدام الدولة لتحقيق هذه التصورات.
والشعوب عادة ما تنظر للحكومات على أنها متغيرة، ويمكن استبدالها عكس الأنظمة والدول. ولذلك فإن الحكومات عليها في أوقات كثيرة أن تعمل وسط نظام تشكل عبر سنوات طويلة مخافة الانهيار الكامل ومثال على ذلك انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينات حينما حاول (ميخائيل جورباتشوف Mikhail Gorbachev) فرض تغيير سريع على النظام في خلال فترة حكمه في ثمانينات القرن العشرين.
يستخدم مصطلح (بلد Country) في كثير من الأحيان مكان أي من المفاهيم السابقة, فهو مصطلح عام يشير للدولة والنظام والحكومة بالإضافة للمواطنين.
في الحلقة القادمة سنستعرض مراحل تطور التنظيمات السياسية للمجتمعات البشرية منذ القبيلة وحتى وصولنا للدولة الحديثة.