هذا ملخص الأسس التي تنبني عليها تحليلات أحداث الثورة أعرضها بصورة نسقية من منطق هدفين نذكره سريعًا في إشارات أملنا أن يتفكر فيها الشباب وأن يتدبروها رغم أنها ليست من مجال هذا النوع من وسائل التواصل. لكن الكتابات النظرية ذات الشكل الأكاديمي متقدمة عليها ويمكن للشباب الرجوع إليها عندما يفرغ لذلك أو إذا كان من جنس القلة التي طلب القرآن أن تفرغ للعلم والتفقه حتى خلال الجهاد:
الهدف الأول:
الهدف الثاني:
الإشـــارة الأولــــى
إن ما لا ينبغي أن ينساه القارئ هو أن ثقافة عصر الانحطاط هي ثمرة الانقلاب الذي جعل وظائف التربية والفكر خاضعة لمبدأ التوريث في المؤسسات التعليمية والفقهية والصوفية. لذلك آلت المؤسسات التربوية والعلمية إلى ما آل إليه مبدأ التوريث في الحكم. فانعكست العلاقة بين المعرفة والسلطة: صار صاحب السلطة يقبل منه ما يقدمه فلا يحتاج إلى المعرفة لأن السيف يغني عن القلم فأصبح الجهل والأمية هما المسيطران. وباتت العادة الفكرية تقاس بالبساطة والسذاجة لغياب جهد التجريد النظري وسيطرة الانزلاق على سطح المعاني المبتذلة. ولم يكن ذلك تيسيرا لأفهام المخاطبين الذين جعلوهم عامة بل هو غيبوبة الفهم عند أصحاب السلطان الموروث في مؤسسات الحكم ومؤسسات التربية.
الإشــــارة الثانيــــــة
وللمستقل الإنساني بعدان هما حديثة الذي يمضي وينقضي ليتواصل في حدثه الفاضل عليه بالتأثير لأنه شرط انتقاله من الأذهان إلى الأعيان الانتقال المتناسق الخاضع لخطة استراتيجية والمتحرر من التوالي الفوضوي الخاضع للصدفة: ومن هنا أهمية درس الاستراتيجية المستقبلية لفتح الآفاق وسعي الأعداء لسدها.
أما الحاضر فهو مسرح الصراع بين الحدثين اللذين يكون أحدهما بصدد الفساد وثانيها بصدد الكون ومن ثم فالحاضر هو بؤرة حيوية الأمة إذ يكون قيامها الحضاري من جنس التجدد الدائم لخلايا الكائن الحي حتى وإن كان من مستوى وجودي أسمى من العضوي لأنه يضيف إليه المستوى الرمزي. ودور الحديثين من جنس دور الوظيفة المتحكمة في هذا التجدد لأنهما هما عين ما في الحضارات البشرية من حقيقة الفاعلية الفكرية في الأذهان والرمزية في الأعية سواء كانت واعية أو غير واعية والتي يمكن أن نفهم بها علل الترقي وعلل الانحطاط الثقافيين والطبيعيين على حد سواء.
الإشـــــارة الثالثـــــــة
وذلك هو موضوع بحثنا هنا لفهم مجريات الثورة في مستوى أرقى من متابعة الأحداث والتعليق عليها بهذين المعنيين لتخلينا فيه عن الكثير من التبسيط الذي غلب على ما نشرناه يوميا تقريبا بخصوصها هادفين إلى الوصول إلى الشباب فيتيات وفتية وهم في معترك النزال محرومين من الوقت الكافي للتدبر والتفكر العميقين مع عدم التخلي عن تدريبهم عليهما حتى وهم في هذا المعترك لأن الشعوب التي تبقى على الغفلة لا يمكن أن تؤسس للمنازل المعقدة من البناء الحضاري: والقياس هنا بين فشتان بين معماري الناطحات وناصب الخيام وبين تخطيط الأمصار وفوضويات المعمار.
فهم ليسوا بغافلين عن دور الدعاية ودور الإعلام وشائعات المخابرات والعلم الزائف بوصفها من أهم أدوات الفعل للقوى الاستعمارية في حربها النفسية عليهم من خلال تزييف التاريخ وتشويه الصورة وحط كل القيم إلى حد الكاريكاتور بتوظيف كاريكاتور النخب التي هي من جنس "الكشبور= نبات له سوق خاوية يسيرة الكسر رغم أنها تبدو متينة" أعني خالية من كل مضمون حقيقي لكأنها أجذاع نخل خاوية.
وهم لا يخفى عنهم أنه ما من ثورة بقادرة على النجاح إذا غرق جميع أبطالها في مجرياتها الحدثية وغابت عنهم دلالات الأحاديث التي أبقت عليها مؤثرة أو الأحاديث التي تريد محو أثرها إذ حينها تتحول أحداثها إلى فوضى التعفن الجاري بمقتضى الصدف فلا تكون ثمرات استراتيجية أصحابها دارين بغاياتها وأدواتها وساعين إلى تحقيق استرتيجية مرتبة للغايات ومعدة للأدوات.
الإشـــارة الرابعـــــــة
لن يفهم أحد عمق النظرية الخلدونية التي يظن الكثير أن الزمن تجاوزها ما لم يلج إلى ما تضمنته من جمع بين مستويين لتحليل قوانين التاريخ الإنساني من منطلق هذه العلاقة بين الحدث والحديث عند الالتفات إلى المادي ثم بين الحديث والحدث عند الالتفات إلى المستقبل من منطلق البؤرة الحاضرة الجامعة بين هذه الأبعاد الأربعة في أصلها الموحد لتلاقيها أعني حيوية الحصانة الروحية التي تبحث عن شروط التكيف الدائم شرطا للبقاء المستقل وغير التابع:
المستوى العمراني والمستوى الاجتماعي
اللذين سمى بهما علمه (علم العمران البشري والاجتماع الإنساني) إلا بعد ربطها بما يسميه "معاني الإنسانية" في كلامه على علل العبودية في ا لتربية والسياسة ومن ثم على شروط التحرر منها بهما عند تصورهما بمقتضى ما توصل إليه من فهم لطبيعة الإنسان من منطلق نظره العقلي ولفطرته من منطلق عقده النقلي. عندئذ اكتشفت سر فلسفته التاريخية وتأسيسها على الوصل بين هذين المستويين فتساءلت عن علاقة ما سماه بصورة العمران بما سماه بمادة العمران وصلة الصورة ببعديها (الحكم والتربية) والمادة ببعديها (الاقتصاد والثقافة) بأصله جميعا أصلها الذي هو نظرية الإنسان الرئيس بالطبع (صوغ فلسفي) والخليفة بالتكليف (صوغ ديني) وهو ما يمكن أن نعتبر أصل الحصانة الروحية للفرد والجماعة.
فسر تفرع الصورة والمادة كليتهما إلى بعدين وربطهما بأساس المناعة الروحية العضوي (الفطرة الموروثة أو الرئاسة بالطبع) التابع لأساسها غير العضوي (التربية والسياسية المحافظة عليها بالحرية التي تحول دون تدجين الإنسان فتحافظ على معاني الإنسانية لديه أو القاتلة لها بالتدجين الذي يفقده معاني الإنسانية) في الجماعات البشرية. فلو كانت فطرة الإنسان وغريزته تتضمن انتقال الخبرة المكتسبة عن طريق الوارثة كالحال في انتقال الصفات العضوية عن طريقها لكان الإنسان غنيا عما ليس بعضوي فيه ولما كان له دور في هذه الوظائف التي سماها ابن خلدون صورة العمران ومادته: ومعنى ذلك أن هذه الوظائف الخمس التي ذكرها ابن خلدون أعني الحكم والتربية والاقتصاد والثقافة والحصانة الروحية أو المحافظة على روح الجماعة (أو ما يسميه بالعصبية بمعناها غير العضوي أو القوة الشرعية التي تجعل الجماعة تحمي ذاتها وترعاها) كلها توريث صناعي وليس عضويا ومن ثم فهي نابعة من الحديث عن الحدث تأويلا للحادث وإحداثا للتأويل وتلك هي وظيفة التاريخ ودوره في بقاء الأمم.
ولعل بقاء فلسفة ابن خلدون العمرانية حبرا على ورق لم تفهم ولم تستعمل ليس بسبب عدم القدرة على القراءة أو بسبب عسر فكره بل لأن الفروق التي عرف بها ابن خلدون خصائص الإنسان بالقياس إلى الحيوان فاضلها وناقصها هو الذي أهمل التفطن إلى أنه أساس كل إبداعه الذي مكن من بناء نظرية الإنسان عنده على مدلولين للفطرة بالمعنى النقلي وللطبيعة بالمعنى العقلي المعنيين المتلازمين في المقدمة كما بين ذلك تلميذه غير المباشر صاحب بدائع السلك في طبائع الملك:
أحدهما يؤسس للعمران
أعني لمستويي موضوع علمه الجديد كما هو بين من عنوان المقدمة: علم العمران البشري (المستوى الأول) والاجتماع الإنساني (المستوى الثاني). والثاني مقدم على الأول لأنه هو الذي يوفر شروط الأول أعني أنه يتلكم على الفضل (الناطقية) الذي يسد النقص (الحيوانية). فالفضل من وجه والنقص من وجه ثان هما علتا المقوم الثقافي علتاه الموجبة والسالبة لسد نقص المقوم الطبيعي بالقياس إلى الحيوان بفضله بنفس المقياس. فحياة الإنسان فردا وجماعة إذا قيست بحياة الحيوان عضويا نجدها ناقصة حماية للذات ورعاية لها وإذا قيست نفسيا نجدها فاضلة وقادرة على تحقيق الحماية والرعاية بتنظيم الجماعة للتعاون الساد للحاجات والحامي للأفراد والجماعات. والفضل هو الذي يسد النقص فيضيف إلى أبعاد الإنسان الطبيعية وتاريخه الطبيعي أبعاده الثقافية والتاريخ الحضاري. وذلك ما علينا تحليله لبيان دوره في تقدم الأفراد والجماعات وفي تأخرهما:
فالنقص العضوي وهو مجال مادة العمران التي هي ثمرة عمل الإنسان لسد هذا النقص العضوي: فهو بالنقص يفسر الحاجة إلى العمران لحل مشكل مادته بحيث إن العمران هو ثمرة الفعل الإنساني للتعويض عن هذا النقص: عجز الفرد عن إعالة نفسه وحمايتها من هنا الحاجة إلى الجماعة. لكن الوجود في الجماعة يولد بين أفرادها العدوان المتبادل والتظالم في التعاون وفي التعاوض.
والفضل النفسي وهو مجال صورة العمران التي هي ثمرة نظر الإنسان لعلاج ما يترتب على النقص من إشكالات: فضل خلقي(الرئاسة بالطبع والعلاقة العدلية) وفضل عقلي (القدرة على تأليف المدارك الحسية والعلاقة العلية). وهو يفسر إمكانية تنظيم الاجتماع (لاالاجتماع الذي هو خاصية عضوية لكل الكائنات الحية) بهذا الفضل الخلقي والعقلي لحل مشكل صورته.
الإشــــارة الأخيـــــــرة
وأهم أدوات العلاج التي تمكن الجماعة من التنظيم العقلي الممكن من علاج هذين العجزين هما أهم اختراع للعقل الإنساني: اللغة حملا للمعاني الفكرية والعملة حملا للقيم المادية. إنهما الأداتان الرمزيتان المعبرتان عن النظر وعن العمل الضروريين في المستوى العمراني وفي المستوى الاجتماعي شرطي قيام الإنسان التاريخي لأنهما شرطا التبادل (الرمزي والمادي) والتعاوض(المعنوي والقيمي) أعني الأداة التي تمكن من التواصل المتساوق (بين المتعاصرين) والمتوالي (بين الأجيال المتوالية) وأداة التعاوض المتساوق (بين المتبادلين حضوريا) والمتوالي (بين المتبادلين غيابيا). والمعلوم أن الأداة الأولى (أداة التواصل: اللغة) شارطة للأداة الثانية (أداة التبادل: العملة) لأنها شارطة للقياس العقلي الذي يجعل العملة بالنسبة إلى المضمون المتبادل اقتصاديا من جنس الكلمة وظيفيا بالنسبة إلى المضمون المتبادل معرفيا.
أداة للتواصل: اللغة وبأهم أبعادها ميز القرآن الإنسان على الملائكة (التسمية والقرآن).
ولما كان حل النقص بالتعاون بين أفراد الجماعة للحماية والرعاية لا يحل مشكل الأمن الداخلي بين الأفراد في خلال تبادلهم وتعاوضهم ولا يحقق بصورة تامة أدوات الأمن الخارجي بين الجماعات المتجاورة في تبادلها وتعاوضها جاءت الحاجة إلى صورة العمران بفرعيها أعني بعدي الدولة حكما (التأثير بالفعل) وتربية (التأثير بالرمز) لتحقق افضل الشروط التي تمكن الجماعة من الحماية والرعاية: فتكون الدولة جملة المؤسسات التي تحقق وظائف الحماية أولا والرعاية ثانيا ماديا ورمزيا بالمقابل مع العدوان في ا لتبادل والتعاوض بين الأفراد في نفس المجموعة وبين المجموعات المتجاورة والمتنافسة على شروط البقاء. ومن ثم فالتاريخ الإنساني عالمي بالجوهر. وهو بحاجة إلى الترجمة اللغوية (بين الثقافات) وإلى الترجمة العملوية (بين الاقتصادات) خلال التبادل والتعاوض سلما خلال الافتكاك والاسترداد حربا: ومعنى ذلك أن نسب القوة بين الأمم والشعبو يمكن أن يقاس بالتناسب بين لغتها وعملتها أي بين أداتيها الرمزيتين الحاملتين:
1- لمعاني التواصل العقلية وأساسها وحدة اللغة والثقافة.
ثمرة الإشارات الخمس
كل الأمراض البشرية التي ليست من طبيعة عضوية ترد إلى ما شاب هذين المبدأين من فساد: أي إن أمراض مادة العمران علتها أمراض صورته:
وكل الأمراض الروحية سببها صورة العمران: أي الحكم الذي يحمي الأفراد داخليا والجماعة خارجيا والتربية التي ترعى معاني الإنسانية فتكون الفرد الحر والكريم القادر على الإبداع شرطا لاختراع أدوات الرعاية والحماية.
ومن ثم فإنه يمكن أن تكون الأمراض العضوية صادرة في الغاية عن الأمراض الروحية: وأخطر هذه الأمراض هو المرض الذي يصيب المستوى الخامس أعني سفينة نوح أو الشريعة أو ما يعتبره ابن خلدون مفقدا للإنسان معاني الإنسانية وعلة فساد كل عمران أي فساد العدل شرط الرعاية بتوسط التعاوض الشارط للتبادل والحماية بتسوط التآخي الشارط للتواصل وهذه هي مقومات لحمة العصبية الشرعية التي هي بالأساس حصانة روحية وليست قرابة عضوية.