رفض التخلي عن دعوته بالرغم أن موافقته على ذلك كانت ستصبح السبب الباقي لنجاته، ففضل الشهادة في سبيلها، وقالها في وجه قاتليه الذين ظنوا أنهم سيقتلون دعوته معه "الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين، الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع، فهي بيعة مع الله، لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه، ولا في ماله لتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله".
كانت تلك الكلمات من أبرز أقواله التي أثرت ولا تزال تؤثر في قلوب محبيه، والتي لاتزال عالقة في آذان مستمعيها إلى الآن، كان "أبيًا مقدامًا"، إنه الشهيد البطل "سيد قطب" الذي تمر اليوم الذكرى الـ "48" علي استشهاده.
هو سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي ولد في 9 أكتوبر 1906، بقرية "موشة"، وهي إحدى قرى محافظة "أسيوط"، ويعتبر من أكثر الشخصيات تأثيرًا في الحركات الإسلامية التي وجدت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، له العديد من المؤلفات والكتابات حول الحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، وكان عضوًا سابقًا في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، ورئيس سابق لقسم نشر الدعوة في الجماعة، ورئيس تحرير جريدة الإخوان المسلمين.
درس المرحلة الابتدائية في قريته، ثم سافر إلى القاهرة عام 1920، والتحق بمدرسة "المعلمين الأوّلية"، وحصل منها على شهادة الكفاءة للتعليم الأوّلي، وكان حريصًا منذ صغره على حفظ القرآن الكريم، حيث بدأ في حفظه وهو لا يزال في الثامنة من عمره، وخلال فترة وجيزة قاربت الثلاث سنوات أتم حفظ القرآن كاملًا.
حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب من كلية دار العلوم سنة 1932، وعمل في التدريس حوالي ست سنوات، ثم شغل عدة وظائف في الوزارة، عين بعد سنتين في وزارة المعارف بوظيفة "مراقب مساعد" بمكتب وزير المعارف، وبسبب خلافات مع رجال الوزارة، وعلى خلفية عدم تبنيهم لاقتراحاته ذات الميول الإسلامية، قدّم استقالته.
بدأ "قطب" متأثرًا بحزب الوفد، وخصوصًا بكاتبه المفضل "عباس محمود العقاد"، فقد تأثر كثيرًا بأفكار "العقاد"، وكان من أشد المدافعين عنه، وبدأ بإنشاء منهج وضعه بنفسه وفق ما اقتضته الظروف العصيبة للمجتمع والأمة حينها، وفي بداية أربعينيات القرن العشرين، عمل كمفتش للتعليم وزاد شغفه بالأدب العربي، وقام على تأليف "كتب وشخصيات"، و"النقد الأدبي: أصوله ومناهجه"، ثم تحول إلى الكتابة الإسلامية، فكتب "التصوير الفني في القرآن"، الذي لاقى استحسانًا وقبولًا واسعًا بين الكتاب والأدباء وأهل العلم حينها.
في عام 1948 حصل "قطب" على بعثة للولايات المتحدة لدراسة التربية وأصول المناهج، وكانت المقالات المختلفة التي كتبها عن الحياة في أمريكا تنشر في الجرائد المصرية، وتناولت الكثير من الحقائق التي عايشها عن الحياة الأمريكية في مختلف تفاصيلها، وأشهرها مقال بعنوان "أمريكا التي رأيت".
ويذكر أنه تعرف على حركة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا أثناء إقامته بأمريكا، وكانت من أكثر المواقف التي أثرت في نفسية "قطب" حينها، عندما اغتيل حسن البنا، حين أخذ الأمريكيون بالابتهاج والفرح مما دفعه إلى الرغبة في أن يتعرف على هذه الحركة عندما يعود إلى بلده.
وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية، ازدادت الأحوال المعيشية والسياسية سوءًا، ولعبت حينها حركة الإخوان المسلمين دورًا بارزًا في عجلة الإصلاح والتوعية باستقطاب المثقفين.
وكان لسيد قطب مشروع إسلامي اعتقد فيه بأنه "لا بد وأن توجد طليعة إسلامية تقود البشرية إلى الخلاص"، ولذلك كانت بداية العلاقة بين سيد قطب والإخوان المسلمين هو كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وفي الطبعة الأولى كتب في الإهداء "الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يريدون هذا الدين جديدًا كما بدأ، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون"، وفهم الإخوان المسلمون أن هذا الإهداء يعنيهم هم، فاعتبروه صديقًا لهم، واهتموا بأمره، إلى أن انضم فيما بعد إلى الحركة وأصبح مسؤولًا للقسم الدعوي فيها.
توطّدت علاقة "قطب" بالإخوان المسلمين، وساهم في تشكيل الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان، وعندما حدثت عملية اغتيال "فاشلة" لـجمال عبد الناصر عام 1954 في منطقة المنشية، وجه "عبد الناصر" الاتهام للإخوان بأنهم من يقفون وراءها، واعتقل الكثير منهم، وكان "قطب" أحدهم، حيث عانى لعشرة أعوام متواصلة من شتى أنواع التعذيب في السجن، واستغل "قطب" فترة اعتقاله في استكمال أهم كتبه وهي "في ظلال القرآن"، و"معالم في الطريق"، و"المستقبل لهذا الدين".
وفي مايو 1964 تدخل الرئيس العراقي الأسبق المشير عبد السلام عارف لدى الرئيس عبد الناصر للإفراج عنه، إلا أنه ما لبث أن اعتقل ثانيةً بعد ثمانية أشهر بتهمة التحريض على حرق معامل حلوان لإسقاط الحكومة كما حدث في حريق القاهرة.
وفي 30 يوليو 1965، ألقت الشرطة المصرية القبض على شقيق "قطب" محمد قطب، وقام "قطب" بإرسال رسالة احتجاج للمباحث العامة، والتي ما كان منها إلا أن ألقت القبض عليه وعلى الكثير من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وحُكم عليه بالإعدام مع 6 آخرين، وتم تنفيذ الحكم في فجر الاثنين الموافق 29 أغسطس 1966.
الأديب
ولسيد قطب علاقة وثيقة مع الصحف والمجلات. فقد بدأ بنشر نتاجه وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره. وقد نشر أولى مقالاته في صحيفة "البلاغ" و"الحياة الجديدة" و"الأسبوع" و"الأهرام" و"الجهاد".
وكان السيد قطب غزير الإنتاج، يكتب المقالات الأدبية والنقدية والتربوية والاجتماعية والسياسية.
ففي المجلات كتب في "الكاتب المصري" و"الكتاب" و"الوادي" و"الشؤون الاجتماعية" و"الأديب" و"الرسالة" و"الثقافة" و"دار العلوم" وغيرها. وقد اشرف على مجلتي "الفكر الجديد" و"العالم العربي"، كما اشرف على مجلة "الإخوان" التي لاحقتها السلطات وفرضت عليها الرقابة دون غيرها من الصحف وأوقفتها عن الصدور في 5 / 8 / 1954.
وبسبب نشاطه الإخواني أغلقت كثير من الصحف أبوابها بوجه إبداعه فكتب يشكو أن الصحف المصرية ـ إلا النادر القليل منها ـ هي مؤسسات دولية، لا مصرية ولا عربية، مؤسسات تساهم فيها أقلام المخابرات البريطانية والفرنسية والمصرية والعربية أخيراً.
وفي موقع آخر كتب ليعرّف الجمهور الكادح الفقير انه ليس هو الذي يموّل الجريدة بقروشه قائلاً :"تعتمد هذه الصحف على إعلانات تملكها شركات رأسمالية ضخمة، وتخدم بدورها المؤسسات الرأسمالية.. وتعتمد ثانيا على المصروفات السرية المؤقتة أو الدائمة التي تدفعها الوزارات لصحافتها الحزبية أو للصحف التي تريد شراءها أو ضمان حيادها.. وتعتمد ثالثا على المصروفات السرية لأقلام المخابرات الدولية وبخاصة إنكلترا وأمريكا".
وكان قطب أديب له مكانته في عالم الأدب والنقد وله علاقات مع عدة أدباء منهم طه حسين وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم ويحيى حقي ومحمود تيمور ونجيب محفوظ وغيرهم.
ولكن علاقته المميزة كانت مع عباس محمود العقاد. وهو أستاذ سيد قطب واثّر كثيراً على مسار تفكير سيد قطب الأدبي والنقدي والحزبي.
كان سيد قطب يكتب عن جميع كتب العقاد ويمدحه ويشير إلى عبقرية الرجل واعتبره شاعر العالم أجمع. لكنه في سنة 1948 خرج نهائياً من مدرسة العقاد. وكان سيد قطب قد دفع الثمن غالياً بسبب دفاعه المستميت
صمود الداعية
يقول أحدهم في لحظات رهيبة سمع هدير سيارة تقترب ، ثم لم تلبث أن سكت محركها ، وفتحت البوابة المحروسة ، ليندفع من خلالها ضابط من ذوي الرتب العالية ، وهو يصيح بالجلادين : مكانكم !
ثم تقدم نحو صاحبنا الذي لم نزل إلى جواره على جانبي المشنقة ، وبعد أن أمر الضابط بإزالة الرباط عن عينيه ، ورفع الحبل عن عنقه ، جعل يكلمه بصوت مرتعش :
يا أخي.. يا سيد.. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس – الحليم الرحيم !!! – كلمة واحدة تذيلها بتوقيعك ، ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء.
ولم ينتظر الجواب ، وفتح الكراس الذي بيده وهو يقول : اكتب يا أخي هذه العبارة فقط : " لقد كنت مخطئا وإني أعتذر… " .
ورفع سيد عينيه الصافيتين ، وقد غمرت وجهه ابتسامة لا قدرة لنا على وصفها.. وقال للضابط في هدوء عجيب : أبدا.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول !
قال الضابط بلهجة يمازجها الحزن : ولكنه الموت يا سيد…
وأجاب سيد :"يا مرحب بالموت في سبيل الله"،الله أكبر !! هكذا تكون العزة الإيمانية ، ولم يبق مجال للاستمرار في الحوار ، فأشار الضابط بوجوب التنفيذ.
ويقول الشهيد عبد الله عزام إن يوم تنفيذ الإعدام، وبعد أن وضع "قطب" على كرسي المشنقة، عرضوا عليه أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة ويتم إصدار عفو عنه، فكان رده "لن أعتذر عن العمل مع الله، إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفًا واحدًا يقر به حكم طاغية"، فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس، فقال: "لماذا أسترحم؟ إن كنت محكومًا بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكومًا بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل".
ويروى أيضًا أن من لقنه الشهادتين قبل الإعدام قال له: "تشهد"، فقال له "قطب": حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم لأجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله.
وبعد أن منَّ اللهُ عليه بشرف الشهادة في سبيل دعوته، ترك الشهيد سيد قطب تراثًا أدبيًا ودينيًا زاخرًا، ومؤلفاته التي تناول فيها شرح العلوم الدينية والدنيوية بأسلوبه السهل اليسير، بالإضافة إلى المقالات والقصائد والأشعار، والتي تشير بعض المصادر إلى أن له أكثر من 400 مقالة موزعة على عدد السنين التي كان يكتب فيها، هذا بالإضافة إلى الكتب التي لم تظهر للنور لأنها كانت ممنوعة في مصر في عهد "عبد الناصر".
