مبارك، هو ذلك الرجل القابع على أكتافنا منذ عقود، يشد آذاننا بضحكات صاخبة تهتز لها كل جغرافيا الوطن، ويقف التاريخ على أعتابها متحسراً متألماً، وتصرخ مصر وتتوجع وتستحلفنا أن نمد لها يد العون، لكن السيف كان دائماً يحصد الأيادي، والعام بأكمله موسم حصاد، حصاد ألسنة نطقت بالحق وأيادٍ حاولت أن تدفع الظلم، وبقرة حُلب كل لبنها حتى باتت من الوهن تخرج دما وتتأوه دون ضجيج أو صخب، تتمنى الخلاص، وهى ممسكة بآخر أيام الربيع، وفى كل الأيام يموت الناس من الفقر عطشى والماء يُباع.
مبارك، هو رجل وُلد في رحم الانفتاح الأهوج، وخُلق من ضلع الاستبداد الأعوج، وكان شاهداً على تزاوج السلطة بالمال، وبارك السلب والنهب والقتل وكان مبارك، كان على استعداد أن يموت شعب بالكامل، ليعيش هو، ويظل من حوله يسبحون بحمده آناء الليل وأطراف النهار، ويطوفون حوله رافعين حذاءه فوق رؤوسهم أجمعين، قبل أن يصحو الشعب من غفوته، ليلقوا بأحذيتهم جميعاً على رأسه التى شابت وشيبت الوطن، مبارك هو رجل برع فى صناعة اليأس.
أما مبارك الذي لم نخلعه بعد، هو رجل مصرى لم يشارك فى الثورة، ولم تستهوه هى، رغم جمالها، ورومانسيتها، ورقتها، ورائحة العطر الفائحة فى كل الأرجاء، ورغم أنه تمنى آلاف الثورات، هو يقف من بعيد، يشاهد ويتابع دون حراك، ينتقد ما يحدث دون أن يعطى لنفسه فرصة أن يشارك، ولو لمرة واحدة فى صناعة الحدث، هو رجل يكره الثورة والثوّار. لا .. هو لا يكرههم، لكنه لا يحبهم، أو يكره الأشخاص ويحب الحدث، الحدث هو ثورة.. يحبها، أو ربما حتى يكره الثورة؛ لأنها سلبت منه الاستقرار، رغم أنه كان ينعم باستقرار مزيف، وسُلبت منه كل مقومات الحياة الشريفة.
ربما اعتاد هو سنوات على الصمت، لأن الصمت كان أصلاً ولم يكن استثناء، كان فرض عين وفرض كفاية، وعندما قرر أن يقطع صوم صمته، فكان كلامه كله مر، غير ذى قيمة، كلام لا قيمة له ولا وزن، تكلم.. حين أصبح الصمت أعظم من الكلام!
مبارك الذي لم نخلعه بَعد، ومازال يعيش فى أذهان الضعفاء والجبناء ومستغلي أنصاف الفرص، هو ذلك الرجل الذى دائماً ما يغلّب مصلحته الشخصية على مصلحة الوطن، رغم أن مصلحة الوطن بالأساس هى كل مصالحنا الشخصية، هى نحن فى أبهى صورنا!
هو رجل اعتاد الاختلاف من أجل الخلاف، واعتاد الصراع من أجل الصدام، ولم يترك أبداً للمجتمع أن يعيش حالة حراك طبيعية، فاختار تحريك دون حراك، مستغلاً حالة فقر سياسى وثقافى وربما دينى، ولم يعرف أنه ليس بالضرورة كل مفضل هو الأفضل، وأنه حتى من نراه الأفضل من وجهة نظرنا، ليس هو الأنسب، وأننا حين نختار فإننا نختار من هو الأنسب للوطن، حتى ولو لم يكن الأنسب لنا، ربما لأنه لم يعتد أن يذوب كفرد فى إطار المجتمع.
هو ذلك الناقم على الأوضاع، متكئاً على معطيات أن حتى من قاموا بالثورة ينشرون فوضى التخوين فيما بينهم، وأن الثورة أخرجت أفضل ما فى المصريين، وما بعد الثورة تجسد القبح فى شخوص هؤلاء، البعض وليس الكل، أن هؤلاء الذين وقفوا رجلاً واحداً من أجل إزاحة الغم والهم المتمثل فى شخص رجل، وشخوص نظامه، ها هم اليوم أصبحوا رجالاً كثيرين، ما يفرقهم أصبح أكثر مما يجمعهم.
هو من يترقب من شرُفة منزله، أو وهو متكئ فى بيته ما يحدث، معتقداً أن المعجزة بدأت وانتهت برحيل النظام، ولم يفهم بَعد، أن المعجزة هى روعة البناء، وليس سرعة الهدم، وأن المعجزة الحقيقة هى أن يصل إليه يقين بأن دوره ضرورى فى صناعة المعجزة، فى تصحيح المسار وإكمال المسيرة!
هو من يصنع الثورة المضادة بسذاجة الأطفال دون أن يدرى، هو رجل قام بالثورة، وتخلى عن مبادئها، وقيمها، وأهدافها، هم بعض من الشياطين كانوا ملائكة ترفرف فى ميدان التحرير، ويتخطف صورهم كل أحرار العالم. هو كل عامل لا يعمل ويطلب الأجر، وكل ثائر حاول أن يصنع من نفسه بطلاً، رغم أن البطل شعب، هو كل صاحب رأى تفّه آراء الآخرين، هو نحن وربما هم، هو ديكتاتور جديد قد نصنعه فى وقت قريب!!
هو الوجه القبيح لمصر التى لا نريدها، هو إفرازات عقود من القهر، هو نبت غير صالح فى بلد طيبة، هو شخوص عدة يتجسدون فى أقبح صورنا، هو الاختبار الحقيقى أمام الثورة التى أدخلت مصر من جديد فى كتب التاريخ، ورفعت شأن المصرى بعد أن كان على وشك أن يندثر!
هو ذلك الديكتاتور الذى سنحاول أن نصنعه نحن، وإذ انتهينا سنصنع منه نصف إله، ثم يصبح هو فرعوناً، ونفاجأ جميعاً أننا "موسى"، وأن كل شخص منا هو "يوسف"، يواجه إخوته، يحبهم ولا يحبونه، هم يغارون من نوره المشرق ووجهه السمح، فنسجن ونقمع، ونُلقى فى بئر نحن من حفرناه، حتى يخرج جيل أرقى وأنقى وأكثر مسئولية ليزيح الديكتاتور، وينهى أسطورة نصف الإله، ويقتل الفرعون.
إذا كنا تخلصنا من مبارك بثورة عظيمة، فإن الأشخاص الذين جسدوا مبارك الآخر يحتاجون لأكثر من ثورة، ثورة على العادات والسلوكيات المغلوطة، وعلى الثقافة المجتمعية الخاطئة، هى ثورات لبناء الإنسان المصرى جنباً إلى جنب مع بناء الدولة المصرية.. وليتخلص كل منّا من مبارك- الآخر- الذى بداخله أولاً.
المصدر: رصد