يقول الفيلسوف البولندي «زيجمونت باومان» إننا نعيش في عصر سائل، لافتًا إلى عصر «الشك»؛ حيث يتميز بحالة مستمرة من التغيير في المؤسسات الاجتماعية التي تذوب بسرعة أكبر، ما يشكّل خوفًا وقلقًا.
وهناك كثير من الأدلة على أن السيولة في التحالفات أصبحت سمة رئيسة للشرق الأوسط على نحو متزايد، وغالبًا ما تكون متناقضة، والتفكير نفسه ينطبق على الجغرافيا السياسية في المنطقة اليوم.
إن الكتل الصلبة نادرة، والتحالفات القصيرة الأجل تعزز الخوف؛ حيث تتغير النظرة إلى «ما الذي يمثل تهديدًا؟» في القضية ذاتها. وهذا هو الحال مع الائتلاف الحالي المعادي للدولة الإسلامية، وأكثر وضوحًا في القوى التي تعمل معًا ضد التنظيم في الموصل.
تتكيف هذه التحالفات السائلة باستمرار مع المشهد: من المفترض أن يكون الحلفاء في المعسكر نفسه؛ لكن المنافسات سائلة جدًا. الجهات الفاعلة هي تقليديًا على خلاف، تتحد لمواجهة عدو واحد دون إدراك محدد لبعضها بعضًا كحلفاء. وعلى سبيل المثال، المقاطعة ضد قطر جعلت تركيا وإيران أقربين إلى بعضهما بعضًا، بالطريقة نفسها دفع تقدم قوات سوريا الديمقراطية (شمال سوريا) تركيا إلى التصالح مع روسيا.
التحالفات الإقليمية
ولعل الحالة الواضحة في سيولة المنطقة تتعلق بتماسك الكتلة المعادية لقطر؛ فكيف نرى صلابة التحالف السعودي المصري؟
لنتذكر أنه في أكتوبر من عام 2016 علّق السعوديون إمدادات النفط إلى مصر؛ ردًا على قرار القاهرة التصويت مع روسيا بخصوص سوريا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وبحلول نهاية العام الماضي، كان التوتر الشديد لا يزال موجودًا؛ كما اتضح في الزيارة التي قام بها وفد المملكة العربية السعودية إلى إثيوبيا والإعلان عن بناء قاعدة عسكرية سعودية في جيبوتي. وقد ينظر المصريون إلى هذه التحركات على أنها خيانة.
والسبب وراء هذه التوترات ذو شقين. من جهة، أن تصورات التهديد تختلف من جهة لأخرى. ففي حين أن النظام السعودي يدرك أن صعود إيران يمثل تهديدًا وجوديًا، فمصر أكثر قلقًا بشأن جماعة الإخوان المسلمين. من جهة أخرى، يوجد لدى الجهات الفاعلة توقعات مختلفة لطبيعة تحالفهما وغرضه.
وماذا عن التحالف السعودي الإماراتي؟ لم نلحظ أيّ اشتباك خطيرًا في السنوات الأخيرة بينهما؛ لكنهما ليسا منسجمين تمامًا.
في ليبيا، يدعم الإماراتيون «خليفة حفتر». وفي اليمن، الإمارات العربية المتحدة معنية أقل بالحوثيين، وتركز على الأمن في الجنوب. إن صعود اثنين من أولياء العهد -محمد بن سلمان ومحمد بن زايد- يغذي التكهنات لتعاون أوثق بين البلدين. وهل سيقوى التحالف بينهما؟ هذا هو السؤال الجوهري، وكيف سيترجم هذا في المناطق التي لهم فيها خطوط متوازية مختلفة؟ وكانت قطر أول اختبار.
التحالف مع الجهات الموالية لقطر سائل أيضًا. وأفضل مثال على ذلك التقارب الحالي بين إيران وتركيا؛ وهما متنافستان.
حوّلت أزمة الخليج الحالية الوضع رأسًا على عقب؛ حيث تخشى تركيا من أن تكون معزولة تمامًا إذا استسلمت قطر. وهكذا، وقفت مع الجانب القطري، وقدّمت الإمدادات الغذائية والوجود العسكري المكثف في المنطقة.
وثمة جانب آخر يستحق المراقبة، وهو حقيقة أن حماس الآن تريد أن تكون أقرب إلى إيران. من حيث المبدأ، فالتقارب بين تركيا وحماس مع إيران ليس نبأ طيبًا لـ«إسرائيل»؛ لكنّ بعضًا داخل الكيان المحتل على استعداد أيضًا لاستغلال هذا الوضع لمواصلة تكثيف الاتصالات مع السعودية.
لماذا «الحياد»؟
ولكن، الأكثر إثارة للاهتمام هو تقييم سبب حياد بلدان نحو المقاطعة التي تقودها السعودية ضد قطر؛ ومنها باكستان التي لها مصالح استراتيجية قوية في الحفاظ على العلاقات مع قطر، أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال (LNG). لكن الأمر يذهب أبعد من ذلك؛ فليست هذه المرة الأولى التي تقول فيها إسلام أباد «لا» في وجه السعودية. في عام 2015، عارض برلمان البلاد إرسال قوات إلى «عاصفة الحزم» في اليمن. وفي محاولة لإصلاح العلاقات، وافقت باكستان على أن تكون جزءًا من التحالف العسكري الإسلامي ووضع قائد الجيش الجنرال المتقاعد «رحيل شريف» باعتباره القائد العام لهذا التحالف المكون من البلدان السنية.
ونتيجة لأزمة قطر، ترى السعودية أنه لم يعد بالإمكان الاعتماد على باكستان في الأمن؛ وهذا له عواقب طويلة الأمد لإعادة تخطيط الجيوسياسية في الشرق الأوسط وما وراءه.
كما أن حليفًا تقليديًا آخر للسعودية لم يقف مع أيّ من الجانبين، وهو المغرب، الذي لم ينضم أيضًا إلى عاصفة الحزم في اليمن، ورفض في الأزمة الأخيرة فرض عقوبات على قطر وأكد دعم جهود وساطة الكويت.
كما أن الجزائر، البلد الذي يميل إلى أن يختلف في كل شيء تقريبًا مع المغرب، كان بشكل استثنائي مع خط المغرب بشأن هذه المسألة بالذات.
سياسات قلقة
وأخيرًا، هناك لاعبون عالميون أيضًا جزء من الصورة. فقد كان استقبال انتخاب «دونالد ترامب» حافلًا في عواصم شرق أوسطية؛ ويمكن للمرء أن يجادل بأن زيارته للرياض كانت من مسببات الأزمة الحالية.
وفي حين أن «تأثير ترامب» قد يعتبر مؤشرًا على أن الولايات المتحدة ستصلّب تحالفاتها التقليدية، فإنها يمكن أيضًا قراءتها تحذيرًا بأن رسائل «ترامب» يمكن أن تزيد من التدهور في المنطقة. وفي هذا الصدد، فإن سياسات الإدارة الأميركية بشأن وضع قطر ليست مطمئنة.
تحالفات روسية
وموقف روسيا هنا أيضًا عرضي. روسيا مرة أخرى في الشرق الأوسط. تتكرر هذه الفكرة باعتبارها تعويذة من قبل أيّ مراقب للجغرافيا السياسية العالمية. ومع ذلك، تجنبت موسكو اتخاذ موقف مع جانب في قضية قطر؛ واختارت التواري عن الأنظار في هذه الأزمة بالذات.
ليست هذه المرة الأولى التي فعلت فيها روسيا ذلك؛ لأنها رفضت أيضًا دعوة الرئيس المخلوع «علي عبدالله صالح» للمشاركة في الحرب في اليمن. ويبدو أن روسيا تحتفظ بميزة اختيار التزاماتها في تكوين تحالف في الشرق الأوسط.
وبالنسبة إلى الأوروبيين، فهم لاعب ثانوي. في هذه المنطقة، لا ينظر إلى أوروبا حليفًا محتملًا؛ ولكن كشريك تجاري يدفع نحو الإصلاحات. وهذه ليست أخبارًا سيئة في ظل الظروف الراهنة.
تنبؤات
عند محاولة التنبؤ كيف ستسير الأمور في المستقبل القريب، هناك نوعان من المحددات يمكن أن يؤخذا في الاعتبار. أولًا، يمكن حدوث أزمات جديدة تهز الوضع مرة أخرى؛ وهذا يمكن أن يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات، وربما يبدأ مع اختلاف الكتلة المناهضة لقطر على تصورات التهديد من جديد.
الآخر، إذا أصبح التوتر بين حكومة قطر وقوات التحالف السعودي الإماراتي سمة دائمة من سمات الجغرافيا السياسية الإقليمية فمن المرجح أن تُرى آثاره في أجزاء أخرى من الشرق الأوسط. فهذا يمكنه إضافة مزيد من العقبات التي تحول دون أيّ محاولة لتحقيق المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وسيزيد من تفتيت المعارضة السورية، وسيؤجج الصراع في ليبيا. مرحبًا بكم في مزيد من السيولة في الشرق الأوسط.