شبكة رصد الإخبارية
follow us in feedly

في المصعد مع عبد الله بن المبارك!! – مخلص برزق

في المصعد مع عبد الله بن المبارك!!  – مخلص برزق
  ليست جميع الأحداث التي تمر علينا يومياً متشابهة لكن بعضها قد لا يتكرر في العمر إلا مرات قليلة وقد لا يحدث...

 

ليست جميع الأحداث التي تمر علينا يومياً متشابهة لكن بعضها قد لا يتكرر في العمر إلا مرات قليلة وقد لا يحدث إلا مرة واحدة مثل ذلك الحادث الذي وقع معي صبيحة هذا اليوم.

كنت في عجلة من أمري كي ألحق بالاجتماع المهم الخاص بالتحضير لفعاليات الفتح الصلاحي لبيت المقدس الذي يوافق الثاني من أكتوبر. تلك المناسبة العظيمة التي تصطف بكل الفخر والكبرياء إلى جانب أيام الله الخالدة كيوم بدر والقادسية واليرموك وعين جالوت.. مناسبة قد لا ترقى إلى اهتمام الكثير من شباب الأمة ممن تستهويه مباراة (كلاسيكو) تافهة تدور رحاها بين فريقين يتنافسان جهاراً نهاراً في خطب ودّ الصهاينة الملاعين على أن يتفكر قليلاً في كيفية استنساخ تلك المناسبة واليوم العظيم كي يستعيدوا هويتهم الضائعة وكرامتهم المهدورة. إنها مناسبة لا تليق حقاً إلا بقلائل يحترفون اصطياد إشعاعات الأمل وتجميعها لتنير طريق السالكين دروب الكرامة.. الصاعدين بأمتهم لقمم المجد السامقة.

ولأني كنت في تلك العجلة من أمري فقد دخلت المصعد وضغطت بسرعة على زر الدور الثاني عشر ونفسي تحدثني بأن سرعة ضغطي عليه لن يسعفني في زيادة سرعة صعوده للأعلى، ولا ألومه فقد بلغ من الكبر عتياً، وعظامه الواهنة تكاد تبدو لي من ثنايا جدرانه الصدئة..

كانت أصابعي تمرر حبات المسبحة الحبيبة إلى قلبي فقد استبقيتها عندي بعد آخر لقاء لي معه وأكاد أحس بحرارة أصابعه المسّبحة على حباتها.. اشتغلت بالتسبيح بتلك المسبحة حتى إذا تخطى المصعد الطابق العاشر ضغطت بحركة تلقائية على زر المروحة التي ملأت المصعد صراخاً وضجيجاً وجعجعة دون أن يكون لها أثر يذكر في تحريك الهواء داخل المصعد..

توقفت تلك المروحة المزعجة ومعها توقف كل شيء!! هل تراني ارتكبت خطأ ما؟ لقد توقف المصعد تماماً بين الطابقين العاشر والثاني عشر وحواني فيه ظلام دامس أخرجت فيه يدي فلم أرها فاضطررت إلى إخراج هاتفي لأحصل منه على جذوة من نور اتفقد فيها ما حولي ولأتصل وبكل هدوء ورباطة جأش بإخواني الذين يقبعون على بعد خطوات مني عن سر ما أنا فيه.. فعلمت بأن الكهرباء قد انقطعت عن البناية بأسرها وأنهم بصدد إخبار المعنيين كي يخرجوني من ورطتي تلك.

انهمرت الخواطر على رأسي وقمت بتهدئتها وكأني أقول لها: (بالدور يا جماعة)!! لمت نفسي أنني غفلت عن ترديد دعاء ركوب المصعد.. ردت عليّ قائلة ولكنك شغلتني بورد الاستغفار على مسبحة صديقك!! وهنا تحسست المسبحة وأخذت أردد ذلك الذكر الحبيب: لا حول ولا قوة إلا بالله. ترى كم من الوقت سيمضي حتى أخرج من هذا القبر المعتم؟ ساعة أم أقل أم أكثر؟ وهل سينفد الأكسجين سريعاً أم هل سيعمد أولئك إلى إنزال المصعد يدوياً وماذا لو؟

قطعت كل تلك الأفكار وبدأت أعدد نعم الله عليّ في هذه المحنة فالحمد لله أنني كنت وحدي في المصعد، لا يشاركني فيه جزع جبان تطيش معه العقول، أو امرأة أجنبية تبليني بخلوة غير شرعية وشبهة تلاحقني أبد الدهر، أو جمع غفير "يشفطون" كل جزيئات الأكسجين بثوان معدودات، الحمد لله أنني كنت قبيل قليل قد زرت بيت الخلاء فلا خوف من المفاجآت غير السارة لمبتلى بقولون عصبي شديد المزاجية!! ثم الحمد لله أن "موبايلي" ما يزال في جيبي وأنني قمت بإتمام شحنه على غير عادتي قبيل الخروج من البيت!! الحمد لله على ما علمت وعلى ما لم أعلم.

جلست القرفصاء وأنا أفكر في تلك الغرفة المظلمة ففيها من حوت يونس عليه السلام، وفيها من جب يوسف عليه السلام، وفيها من معتقلات العصابة المجرمة التي حكمت سورية بالحديد والنار، وفيها من معتقلات بني صهيون التي خرجت لنا رجالاً وأي رجال..

لم أشعر بأي حركة تشي بقرب خروجي من قبري هذا، ولم يتسبب ذلك بالشعور بأي قلق يساورني وأنا أستعرض تلك الخواطر وأنا أتابعها وكأنما هي برنامج تلفزيوني منوع على فضائية ناجحة!! غير أنه هجم عليّ فجأة كعادته في مواقف كثيرة مماثلة ليذكرني بقصوري أمامه وفشلي في اللحاق به.. عندها، وعندها فقط شعرت بالأسى والحزن والكآبة على ما حصل لي، ففي كل مرة مماثلة كنت أقولها صريحة لتلك النفس: ويحك؛ متى سيكون لك ذلك الحس المرهف.. متى ستصلين إلى شفافيته ويقينه بربه وجميل توكله عليه مع شدة خوفه ورهبته؟

إنه العالم العابد الزاهد المجاهد عبد الله بن المبارك الذي قال النسائي عنه: لا نعلم في عصر ابن المبارك أجلّ من ابن المبارك ولا أعلى ولا أجمع لكل خصلة محمودة منه.

فما الذي أتى بابن المبارك إلى ذلك المصعد الذي علقت فيه بين السماء والأرض؟

إنها قصته التي لا يمكنني ولا يسعني أن أنساها، ويتراءى لي صاحبها كلما مررت بموقف مماثل لها..

يروي القاسم بن محمد قصته مع ابن المبارك فيذكر أنه كان يكثر السفر مع ابن المبارك, ولم يكن يلحظ زياده في عبادته على غيره, فيعجب من ذلك وكثيراً ما تحدّثه نفسه: بم فضل هذا الرجل علينا حتى نال هذه الشهرة بين الناس؟ فبينما هم في ليلة على عشاء انطفأ السراج, فقام بعضهم وأخذ السراج وخرج به يستصبح, وحينما عادوا نظر القاسم بن محمد إلى عبد الله بن مبارك فرأى الدموع قد بلّلت وجهه ولحيته, فقال في نفسه: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا, ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة .. تذكّر القيامة!.

إنها أحوال لا يشعر بها إلا من تلذذت روحه بالائتناس بالمولى عز وجلّ ورؤية ما أعده من نعيم وما توعد به من عذاب وجحيم وهي التي نفتقدها في دوامة الحياة اليومية ولا مفر لنا من البحث عنها لنسقي بها أرواحنا العطشى قبل أن يتحول ذلك المصعد إلى حفرة ضيقة تصعد بك إلى أبواب السماء أو تنزل بك إلى دركات الأرض..

لم تمض أكثر من عشر دقائق حتى عادت الكهرباء وعاد للمصعد شبابه وهمته – إلى حين – وخرجت منه وكلي حياء من ابن المبارك الذي جاءني طيفه في ذلك المصعد وكلماته تتردد في خاطري:

إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يُدرى مافيه من الهلكة، وفضل قد أُعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت يراها هدىً، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.



تنفيذ و استضافة وتطوير ميكس ميديا لحلول الويب تنفيذ شركة ميكس ميديا للخدمات الإعلامية 2023