لا شك أن أخطر ما يواجه الدولة المصرية بصفة خاصة و دول الربيع العربي بصفة عامة هو مشكلة الأمن و سبل استعادة السيطرة على الشارع و استعادة الشرطة لعافيتها بعد حالات الانفلات الأمني التى صاحبت قيام الثورة فى البلاد .
إن حل مشكلة الأمن هو الخطوة الأولى على طريق حل مشكلات أخرى لا تقل أهمية أيضاً عنها و القضاء على الانفلات الأمنى سيلقى بظلاله على ارتفاع معدلات السياحة و إقناع رجال الأعمال بعودة الاستثمارات و بالتالي انتعاش البورصة و تعافى الاقتصاد و الارتقاء بمستوى المعيشة و الأهم من ذلك كله مجرد إحساس المواطن بالأمن و الأمان على نفسه و أهله و أمواله ووطنه و غيرها الكثير من الفوائد .
من أجل ذلك كله حاولنا هنا أن نضع تصورا مبسطا لعوامل عودة الأمن و مقومات الاستقرار الأمنى فى بلدنا لعلها أن تجد صدى لدى المسئولين و لدى كافة قطاعات المجتمع و مساهمة منا فى نهضة و رفعة بلدنا .
عوامل الاستقرار الأمنى
توافر الإرادة السياسية :
لعلها تكون أبرز العوامل المؤثرة فى عودة الانضباط و الاستقرار للشارع ، بعني أن تتواجد النية و العزيمة لدى المسئولين عن البلاد لعودة الأمن و التصميم على تحقيق هذا الهدف و يمكننا الشعور بتلك النية و الإرادة من خلال رؤية التخطيط لعودة الاستقرار و تشكيل اللجان الفنية التى تقوم على ذلك الهدف و المتابعة الدورية و غيرها ، و أسوق هنا مثالا حدث فى مصر بعد الثورة أيام الانتخابات البرلمانية حيث سبقت تلك الانتخابات تهديدات بأنها ستكون حرب ضروس و انتخابات دموية و صراعات فى ظل حالة الانفلات الأمنى فى الشارع و فى ظل أحداث شارع محمد محمود و غيرها لكن المجلس العسكري كان فى كل المحافل يؤكد بصرامة و عزم أن الانتخابات ستجرى فى موعدها و بتأمين كامل و أنه المسئول عن التأمين و بالفعل أنجز وعده و إن كنا نختلف معه فى أمور أخرى لكن وجب هنا شكره و تقديره .
تحقيق السلام الإجتماعى :
بمعنى أن يعيش المجتمع بكامل طوائفه و طبقاته فى حالة من التلاحم الوطني و أن يعلى أبناء الوطن الواحد من شأن مصلحة الدولة العليا فوق المصالح الشخصية و الحزبية الضيقة .ربما يكون قد اختلف هذا المفهوم بعد الثورة عما قبلها ، فقبل الثورة كان يرى المخلوع و عصابته أن السلام الإجتماعى يعنى صورة للهلال مع الصليب باعتبار أن الفتنة الطائفية – المختلقة – هى ما تهدد السلام الإجتماعى و كذا استخدامه لفزاعة الجماعات الإسلامية و غيرها .فيما نرى أن هذا المفهوم قد تبدل بعد الثورة … تلك الثورة التى خلقت مجتمعا جديدا بطوائف جديدة لكنها فى حقيقة الأمر قديمة !! نعم .. هى جديدة فى مسمياتها لكنها نفس الوجوه و الأشخاص ، بمعني أننا وجدنا وسط مجتمعنا طائفة جديدة تسمى " الفلول " و ظهرت على السطح قوى مجتمعية كانت خفية إلى حد ما أمثال السلفيين و الجماعة الإسلامية ، و حتى الإخوان المسلمين و الصوفيين و العلمانيين و غيرهم ، و بالتالي نحن نرى مجتمعا كاملا جديدا بعد الثورة بطوائف متعددة ولدت جميعها من رحم ميدان التحرير و نسوا جميعا أنهم أشقاء فى الوطن حين تصارعوا و تنافسوا فى مضمار السياسة .تحتاج تلك الطوائف إلى مصالحة وطنية و توافق مجتمعي حول خلافاتهم السياسية التى تلقى بظلالها على الشارع و صراعاته ، يتوجب على هؤلاء جميعا أيضا توافر الإرادة المجتمعية لعودة الأمن و الاستقرار و مساعدة المسئولين فى الدولة على ذلك و تكوين شراكة مجتمعية و توافق وطني حول ضرورة عودة الأمن للشارع .
عوامل تتعلق بالحالة الاقتصادية :
من الصعوبة أن يتحقق استقرار أمنى فى وطن تفشى فيه الفقر و الجوع و ساءت أوضاع المعيشة فيه .
نثبت صحة ذلك المفهوم تاريخيا و جغرافيا … – تاريخيا : نذكر جميعا واقعة رفع حد السرقة فى عهد سيدنا عمر بن الخطاب حين أدرك أنه فى ظل الفقر المدقع الذي انتشر فى البلاد أصبح العائل يسرق ليكفى أسرته و يؤمن قوت أبناءه … الشاهد هنا أنه بترتيب الأحداث : حالة اقتصادية متدهورة .. انتشار للفقر .. زيادة حالات السرقة .. وبالتالي تردى الأوضاع الأمنية .
– جغرافيا : لو تابعنا الأخبار المتلفزة عن أشد البلدان الإفريقية معاناة من الفقر لوجدناها أيضا أكثر البلدان معاناة من انتشار السلاح و الصراعات الأهلية لأسباب عديدة أبرزها ضعف و ربما انعدام مستوى المعيشة لدى مواطنيها .من هنا وجب السير فى خطين على التوازي وهما ملفي الأمن و الأوضاع المعيشية لتحقيق غاية عليا و هى مصلحة البلاد .
ثقافة و أخلاقيات المجتمع :
كما تحدثنا عن وجوب توافر الإرادة السياسية هناك فى المكاتب و الأدوار العليا عند الساسة و توافرها لدى القوى الوطنية و الحزبية ، فيجب أن نذكر أيضا أنه يفترض على الشارع نفسه أن يساعد فى عودة الاستقرار إليه .أستشهد هنا بكلام رب العالمين " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " … ثقافتنا نفسها بحاجة إلى التطوير و التغيير للأفضل و التطلع للنهضة و الحداثة و التطور و تطبيق هذا التمني و الحلم على الذات فى أرض الواقع و المعاملات و كما قلنا مراراً و تكراراً : " ابدأ بنفسك و لا تنتظر التغيير من الآخرين .أحاول تفسير غموض هذه النقطة و علاقتها بعودة الأمن من خلال بعض القيم التى افتقدناها – إلى حد ما – بعد الثورة أمثال : قيمة الاحترام المتبادل بين الشرطي و المواطن – قيمة احترام القانون – قيمة النظام فى كل أمور الحياة – قيمة الاعتراف بالآخر و حقوقه – قيمة اللجوء للتقاضي و نبذ العنف و قيمة كبرى هى الثقة فى الشرطة و إيصال تلك الرسالة عمليا لهم .
الإمكانيات و القدرات الأمنية :
و هنا يوضع شرط بين قوسين (( بما يتوافق مع الحالة الثورية للمجتمع و بخاصة الشباب )) و مراعاة مناخ الحرية الجديد الذي نحياه جميعا بشرط طبعا ألا ينقلب هذا المناخ إلى جو من الفوضى تثير عاصفة حرب أهلية لا قدر الله .أن زيادة القدرات الأمنية لا تعنى بالضرورة زيادة الإمكانات المادية و اللوجيستية و إنما أشير هنا بالدرجة الأولى إلى التدريب النفسي و الذهني و إعادة تأهيل الصف الشرطي و الإعلاء من قيم الحرية و الكرامة و حقوق الإنسان و التذكير بالغاية الأسمى من عمل الشرطة و هى خدمة الشعب و حفظ الأمن .. كل هذه التدريبات بما يتناسب مع الحالة الديمقراطية الجديدة فى المجتمع وبما لا يتنافى أيضا على الجانب الآخر من سيادة القانون .كذا لا مانع من وسائل جديدة تعين الضابط على التعامل فى حالات الفوضى و الخروج عن القانون كتلك الوسائل التى نراها فى الدول المتقدمة بعيدا عن الذخيرة الحية و العنف المفرط .
لست خبيرا أمنيا أو محللا استراتيجيا لكن أرى أن كل هذه العوامل و غيرها من المقومات لابد و أن تتوافر أولا قبل التفكير فى عودة الأمن على الأرض … حفظ الله مصر و شعبها و رعى لنا مقدرات هذا الوطن و مكتسبات ثورتنا المجيدة … ربنا … هذا الجهد و عليك التكلان .. اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد .